كانت تلك هي المرة الأولى التي يشعر فيها زيد أنّه يدخل في منطقة خطرة، حيث وجد نفسه يتكلّم في أمور لم يسبق له أن يدخل فيها، وكان من عادته أن يكلّم والدته عن كل همومه لكنه هذه المرأة يشعر بالإحراج والخجل.
ولمّا كان زيد ليس له سوى والدته بعد وفاة والده فهو يعلم أن مصيره مرتبط بها وقد أجادت في تربيته سنوات طويلة ولم تكن تشتكي من قسوة الأيام خصوصاً وأنها تقوم بتربية اطفالها الذين أصبحوا الآن رجالاً منذ فقدان زوجها من خلال القيام بخياطة الملابس النسائية ولم يشعر أحد من أولادها يوما انه يفتقد للأب.
وكان زيد أصغر الأبناء لأن الابن الأكبر قد تزوج وخرج في بيت مستقل، واما الابن الأوسط فقد دخل الجامعة منذ سنتين في محافظة أخرى وبقي زيد مع أمه لأنه دخل الجامعة منذ أشهر قليلة.
ولمّا كانت الجامعة مكاناً جديداً عليه تعوّد زيد على أن يقضي وقته مع الأشخاص الذين يعرفهم من زمان الدراسة الإعدادية لأن والدته كانت تحرص على أن يكون اصدقاؤه من الأشخاص المؤمنين.
واليوم يحاول زيد أن يصارح والدته التي يحبّها كثيرا بأنه وقع في مشكلة كبيرة حيث يشعر الآن بتأنيب الضمير لأنه دخل في مجموعة من المجاميع الخاصة بالتواصل الاجتماعي وحصل بينه وبين إحدى الاخوات كلام شعر أنه قد تجاوز فيه حدوده مع أنه لم يبدأ الحديث معها ولا بادر الى ذلك، لكنه أبدى رأيه في احدى القضايا وتعجب من دخول احدى البنات على صفحته وكلامها معه على الخاص معترضة على أفكاره.
واليوم كان زيد ينتظر الوقت المناسب ليفتح الموضوع مع والدته التي عوّدته على الصراحة في الكلام حتى عن خصوصياته، فقد كانت تعلّمه حتى أحكامه الشرعية بإرشاده مباشرة أو بإعطائه كتاب يتعلم منه وظيفته الشرعية وبقيت تتابع أوضاعه وحاجاته حتى أصبح الآن ناضجاً وطالباً في كلية الهندسة.
وعندما انتهت والدته من الصلاة جاء وجلس بقربها وأخذ يستجمع شجاعته وبدأ بالكلام قائلا: انني كنت انتظر الفرصة المناسبة لأتحدث اليك في امر مهم وأحتاج فيه الى الارشاد.
قالت الام: وما هو الأمر الذي يشغل بالك؟
قال زيد: إنني أتكلم في مجموعة عامة وكنت أعرض فيها ما تعلمته منك من أفكار خلال السنوات الماضية.
قالت الام: وما هي المشكلة في تلك الأفكار فهي أفكار شرعية ومأخوذة من القران والسنة.
تابع زيد قائلا: كلامك صحيح، وأنا على يقين من كل هذا ومؤمن به بكل جوارحي ولنْ أفرّط في ذلك أبداً لكن الأمر ليس مرتبطاً بي وإنّما حصل أمر غير متوقع.
قالت الام: وماذا حدث حتى جعلك تطلب مني التدخل؟
قال زيد: عندما كنت أتحدّث مع الأصدقاء في قضية العلاقة الاجتماعية بين الرجل والمرأة طرحت افكاري بكل صراحة وكان يوجد بعض الأخوة من المعارضين كما كان يوجد عدد من المؤيدين وكان هذا أمر طبيعي فكلّ واحد من الموجودين يتحدّث حسب أفكاره الاجتماعية وقِيَمِهِ الأخلاقية وأنا كنت أطرح ما عندي من أفكار تعلّمتُها منك طوال حياتي، وفجأة دخلت على صفحتي إحدى البنات في الجامعة وكانت تسالني عن تلك العلاقات الاجتماعية وحكم الشرع فيها وأنا كنت محرجاً من الحديث معها ووعدْتها بأن آتيها بجواب كلامها بشرط أن تعطيني فرصة للمراجعة وشعرت من خلال كلامها أنها لا تعرف الجواب وأنها تريد أن تتأكّد من صحّة الأفكار التي يتداولها الشباب في الجامعة حول حدود تلك العلاقة بين الرجل والمرأة.
وفي هذه اللحظة قاطعَتْ الأم ابنها قائلة: وهل تكلمت معها في هذه الأمور أم أنك وقفت من البداية وطلبت المهلة؟
قال زيد: كنت حائراً، كيف أتصرّف معها خصوصاً بعد أن عرّفتْني بنفسها وأنها زميلتي في الجامعة وفي نفس القسم الذي أدرس فيه؛ ولهذا طلبت منها فرصة للمراجعة حتى أستشيرك في الأمر قبل أن أجيبها عن كلامها.
قالت الأم: خيراً فعلت، فإن السؤال مرّتين خيرٌ من الخطأ مرّة واحدة، عليك أنْ تعرف أنّ التواصل مع المرأة ليس مأموناً في هذا الزمن خصوصاً مع هذا التواصل الذي لا يطّلع عليه أحد غير الله.
قال زيد: وما هو الحل الشرعي لمثل هذا التواصل حتى يكون مأموناً ومشروعاً؟
قالت الأم: يجب أن يكون المعلّم من جنس المتعلّم حتى يكون التعليم آمناً ومشروعاً حتى على المستوى البعيد
قال زيد: والحل كيف يمكنني اقناعها بكلامي إذا كان حديثي معها ليس مأمونا على المستوى البعيد؟
ردّت الأم قائلة: أنت مخيّر في هذه الحالة بين أن تجمع بيني وبينها حتى أكلّمها مباشرة او تتّصل بها وأنا أتحدث إليها من أجل إقناعها بما تريد وأما أنْ تتواصل معها مباشرة فهو امر غير مأمون الا في حالة نادرة وانت تعلم إنّ العاقل لا يعتمد على النوادر خصوصاً مع شعوره بالخوف من تطوّر الحديث الى مستوى أكثر تفصيلاً وخطورةً.
قال زيد: ماذا عن علاقاتنا أثناء الدراسة؟ هل يجب أن تخضع لنفس المقياس؟
قالت الام: نعم نفس الأمر يجري في كل تواصل بين الجنسين.
استمع زيد لحديث والدته بصمت، وهو يعلم أنها تريد له الخير وعقد العزم على أن يعود في اليوم التالي ليطبق ما قالته والدته حتى تنتهي حالة الحيرة وتأنيب الضمير.
وعاد الى حياته مع أمه واضحاً لا يريد شيئاً إلا وتكون معه في كلّ خطوة يخطوها وتطوّرت علاقة والدته بالبنت التي كلّمتْه حتى تفاجأ بأمّه تطلب منه الاستعداد للزواج منها، وفعلا تحقّق هذا الزواج بفضل هذه الأم الواعية لدورها في حماية أولادها.
جميل مانع البزوني
https://telegram.me/buratha