كندي الزهيري
عندك واسطة أو معارف؟ شاعت بين العراقيين تعابير يومية مثل: ما تعرف واحد بالوزارة؟ أو عندك واسطة او عِرف بالدائرة الفلانية؟ شكد تكلف معاملة اصدار هذا التأييد او الوثيقة؟ وممكن تخلص بأسبوع؟
مثل هذه المخاوف تواجه العديد من العراقيين قبل دخول بعض الدوائر الحكومية حيث احتمال مواجهة جفاء وتغاضي موظفات وموظفين، فضلا عن عدم كفاءة بعضهم.
مرت الوظيفة الحكومية في العراق بمواسم مختلفة، ففي خمسينات القرن الماضي وما تلاها، حينما كانت شروط التعيين تخضع لأنظمة الخدمة المدنية وضوابطها وشروطها، مثلت امتيازا اجتماعيا ومؤشرا على رصانة واستقرار مادي مقبول، رافقته فرص الحصول على منافع اجتماعية كأرض سكنية وقرض بناء.
وخلال سنوات الحرب العراقية الايرانية في الثمانينات لم يعد راتب الموظف يسد كامل متطلبات الحياة مع ازدياد التضخم المالي، وبرغم ذلك فقد مثّلت الوظيفة الحكومية حينها فرصة ذهبية -في بعض الحالات- لتأجيل مواجهة الموت في جبهات القتال حتى ولو الى حين.
في التسعينات انتعشت مظاهر الفساد المالي بوضوح، خصوصا في قطاع الخدمة العسكرية، وأصبح الالتزام بالدوام الحكومي غير مجدٍ وعبئاً ثقيلا على الموظف، اذ لم تعد الرواتب تسد الا جزءا ضئيلا يكاد لا يذكر من متطلبات حياة العراقيين أيام الحصار الاقتصادي، حينها لم تكن نكتة عندما يقول احدنا: " راتبي الشهري يوفر شراء طبقة بيض واحدة فقط"!
لذا سعى كثيرون للتحايل للاستقالة الرسمية من الوظيفة (التي لم تكن متاحة بل يعاقب المستقيل بالسجن)، حينها شاع بيع الممتلكات الشخصية، وبحث موظفون عن أكثر من فرصة عمل لتأمين الحد الأدنى من احتياجات الحياة، ما الجأ كثيرين، ومنهم شخصيات إدارية واكاديمية وبمستويات مرموقة، الى العمل بصمتٍ في مهن أقل من مراتبهم العلمية والاجتماعية بدرجات عديدة.
لكن الوظيفة الحكومية في العراق انتعشت بشكل مباغت بعد عام 2003، عندما صارت امتيازاً وحظوة اجتماعية ومادية، برغم أن كثيرين شغلوها بدون كفاءة وخبرة ومقدرة، والسبب يعود الى ان "التعينات" المنفلتة لعشرات الالاف خارج المعايير .
تمثل البيروقراطية والفساد الإداري وتضخم الجهاز الحكومي مظاهر وعوامل تنخر في جسد الدولة العراقية الحديثة، وقد شاعت تعيينات أقارب المسؤولين والسياسيين والمحسوبين على الأحزاب والقوى السياسية في دوائر الدولة، حتى كادت تنتسب بعض الوزارات الى هوية وزيرها كطائفة وحزب وانتماء، ما ساهم في شيوع البطالة المقنعة اثمرت انتعاشا لمظاهر الفساد الإداري وتراجع الأداء الوظيفي بسبب تفضيل الولاء على الخبرة.
ان أفواجا من الموظفين غير الكفوئين الذين تعينوا خلال العقد الاخير ينتسبون لقوى واحزاب و كتل وعلاقات تجعلهم في مأمن من العقاب وحتى المساءلة أحيانا. بالغ بعضهم في التشدد في معاملة "المراجع" الذي يضطر الى البحث عن محترفي تعقيب المعاملات وهم على الاغلب وسطاء بين المُراجع والموظف لتسهيل مرور الرشوة .
هذا الواقع عزز فكرة ان الوظيفة هي امتياز اجتماعي واقطاعية دائمة لبعض الموظفين يجد فيها فرصة لفرض سطوته وسلبياته وحتى أزماته الشخصية والعائلية.
هل اللوم يقع على الموظف وحده؟ كلا فالمواطن الضحية هو أيضا بشكل ما الاشكال ضالع بتعزيز مظاهر الفساد، من خلال ضلوعه في ترويج أساليب الفساد والرشوة ، ان جذور المحسوبية والمنسوبية في العراق قديمة وقد واجهها البريطانيون عند بدايات تأسيس الدولة العراقية، ومع تعدد محاولات تجاوز هذه العلل الا أنها اثبتت اليوم رسوخها في دواوين مؤسسات الدولة وغرفها. فضلا عن العقلية العراقية الجمعية.
اين القانون من مراقبة أداء الموظف؟ يثيبهُ عند التميز والمبادرة، ويعاقبه عند الاخلال والإساءة، ان منظومتين قانونيتين تتحكمان في الوظيفة الحكومية، أولهما قوانين موظفي الدولة الذي ينبغي تطبقه الدائرة الحكومية على موظفيها، وثانيهما قوانين العقوبات التي تُعنى بحالات الفساد واستغلال المنصب وهدر المال العام وغير ذلك مما تعمل هيئة النزاهة على متابعة تطبيقه في حالات عديدة،
لعل أهم ما يميز البيروقراطية كممارسة وسلوك هو إضعاف روح المبادرة، وإشاعة الركود، وشلّ التفاعل بين أجهزة الدولة، حين تزداد عزلة العديد من الوزارات والدوائر عن بعضها، حتى وصل الامر ببعضها بتبادل الاتهامات فيما بينها لتبرير ضعف او قصور في توفير خدمة ما للمواطن.
ربما لا يعرف بعض العراقيين مفهوم الوظيفة العامة وانتاجية الموظف وكفاءته وادائه في العالم المتحضر، ففي بلدان الغرب وبعض الدول الإقليمية التي طورت أجهزتها الحكومية، فُعّلت الحكومة الالكترونية التي تُنجز من خلالها قضايا الجمهور بدقة وتكامل خلال أقصر فترة ممكنة.
وخلاف ذلك فان الموظف المقصر او المسي والمعرقل لانسيابية العمل يفصل من الوظيفة، اما عندما في العراق فلم نسمع خلا ل السنوات الاخيرة ان موظفا تعرض لمثل هذه العقوبة برغم أن العديد منهم يستحقها وبجدارة ، ان الحل يكمن في ثورة إدارية تفصل المسار الإداري والوظيفي عن المسار السياسي في عراق اليوم.
لعل من الضرورة بمكان الإشارة الى ان أمثال هذه النماذج لا تشمل جميع موظفي الخدمة العامة في الدولة العراقية، فهناك من يسعى للحفاظ على نزاهته وامانته ومنهيته في تأدية الواجب ومساعدة مواطنيه لإكمال معاملاتهم ، لكن احاديث العراقيين وحواراتهم تنطوي على قدر كبير من نماذج سلبية حتى أصبح من المستغرب جدا ان يقول احدهم انه انجز معاملته في احدى الدوائر بساعة واحدة فقط!
على الحكومة ان تكون جادة في انهاء هذا الملف الذي يضعف دور الحكومة ، ويجعلها غير فعاله في نظر المواطن.
https://telegram.me/buratha