محمد الجاسم ||
في الرابع عشر من تموز من كل عام تنبري بعض الأقلام الشريفة لإستذكار أول ثورة شعبية بأدوات عسكرية قامت في العصر الحديث في العراق،تمكن الشعب العراقي فيها من السيطرة على ثرواته الطبيعية بعيداً عن هيمنة حلف بغداد الإستعماري ،وتسلط الإنكليز على مقدراته بأجمعها،كما تمكنت حكومة الثورة من تخليص العراق من التبعية القومية البغيضة،وأقامت حكومة الثورة نظاماً جمهورياً حديثاً ذا طبيعة مؤسساتية ومجالس تنفيذية خدمت شريحة الفقراء قبل غيرهم،حتى غلبت تسمية (حكومة الفقراء) عليها.لذلك قررت أنا هذا اليوم أن لا أكتب عن الثورة وما لها وماعليها وما آلت إليه في شباط العام1963من المصير الدموي على يد حزب البعث العنصري الشوفيني المدعوم من نظام عبد الناصر في مصر والولايات المتحدة الأمريكية التي ورد ذكرها في اعتراف علي صالح السعدي أمين سر قطرالعراق لحزب البعث :" لقد جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي "،ولكن سأتطرق الى المغالطات التي يتم حشوها في وسائل الإعلام،تارة لتجميل صورة العهد الملكي،بواسطة عرّاب عودته الى الساحة العراقية (الشريف) علي بن الحسين الحجازي،وتارة بالمقارنات الظالمة والمُجانبة للصواب والإنصاف التي تضطلع بالترويج لها بعض الأصوات النشاز.
لقد شاهدت هذا اليوم أن فضائيات الفتنة والتفرقة الطائفية مثل (الشرقية) و(دجلة) قد ملأتا الفضاء المرئي بلقاءات مستفيضة مع (الشريف) علي بن الحسين الحجازي، وهو يتهجم على التجربة الثورية للعراقيين ويصفها بأقذع الأوصاف ،مدعياً أن العهد الملكي كان عهد الديمقراطية والإزدهار الإقتصادي والسلام الإجتماعي وحكم الجماهير. أما العهد الجمهوري فمنذ (إنقلاب) 14 تموز 1958 هو عهد المقابر الجماعية،وعهد الإنقلابات العسكرية،كما سمعتها منه في عدد من الفضائيات أن الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم قد أعدم أكثر رفاقه الذين قاموا بالثورة.
إن استغلال الجرائم البشعة لزمرة البعث الصدامي ورميها على ثورة تموز،إنما هي عملية تضليل ممنهجة قام بها (الشريف) علي بن الحسين الحجازي تقرباً الى الجماهير البسيطة وخاصة الشباب الذين لم يتيسّر لهم معاصرة الثورة أو الإطلاع على شهادات وروايات تسجيلية أو نقلية،ولايمكن أن ينسى العراقيون أن أول إنقلاب عسكري في العراق هو الإنقلاب الذي قام به الفريق بكر صدقي في العام 1936،في العهد الملكي،مستنداً فيه على تأييد وتورط الملك غازي الذي كان يميل الى المعسكر النازي في ألمانيا وحليفه المعسكر الفاشي في إيطاليا ضد بريطانيا، ولذلك تذهب بعض المصادر أن مقتل الملك غازي في حادث إصطدام سيارته بشجرة على قارعة الطريق في بغداد،في الرابع من نيسان العام1939،إنما كان إغتيالاً مدبراً ومقصوداً.ويذكرأن الحقبة الملكية في العراق شهدت ثماني محاولات إنقلابية عسكرية نجحت منها ثلاثٌ وفشلت خمسٌ.
أما على صعيد (إسطوانة) الإستقرارالسياسي والأمني التي يتحدث عنها (الشريف) علي بن الحسين الحجازي،فلعلها كانت موجودة في عهد الملك فيصل الأول بن الحسين،ونسبياً طبعاً،وبرحيله في العام1933 لم يعد ثمة أي نوع من الإستقرار السياسي في العراق ،فقد كانت الحكومة العراقية مسلوبة الهيبة بسبب إستبداد نوري السعيد والوصي عبد الإله اللذين لعبا دوراً كبيراً في تشويه عملية التطور السلمي التدريجي وإشتغلا فعلياً على تجميد وتهميش الدستور. أما البرلمان(مجلس الأمة) فكان عبارة عن شخوص نخبويين من التجار والإقطاعيين والسياسيين المنفذين للأجندات الخارجية. ولعل حادثة إلغاء نوري السعيد البرلمان في إحدى دوراته في العام 1954 بعد يوم واحد فقط من إفتتاحه بسبب فوز أحد عشر نائباً فقط من المعارضة من مجموع 130 نائباً رغم محاولات السلطة الملكية لتزييف الإنتخابات لَتُعَبِّرُ بوضوح صريح بأن الدستوركان حبراً على ورق والبرلمان جثةً هامدة. لذلك وصف الشاعر الكبير معروف الرصافي ذلك العهد بقوله:
علمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ كلٌّ عن المعنى الصحيحِ محرَّفُ
إنْ دامَ هذا في البلادِ فإنَّهُ بدوامِهِ لسيوفِنا مسترعفُ
كم مِنْ نواصٍ للعدا سنجزُّها ولحىً بأيدي الثائرينَ ستُنْتَفُ
ومن الجدير بالذكر أن نثير إنتباه (الشريف) علي بن الحسين الحجازي الذي يتباكى على العهد الملكي بوصفه عهد الحريات الديموقراطية،لنقول له ماقالت به المصادر التأريخية، وأهمها كتاب (تاريخ الوزارات العراقية) لعبد الرزاق الحسني، الذي ذكر فيه الكثير من تفاصيل القمع السياسي للتظاهرات المطلبية،ولعل أبشع طرق القمع ما تعرضت له الجماهير المحتجة على معاهدة بورت سموث والجماهير الطلابية وتظاهرات شركة النفط الوطنية التي سقط فيها شهداء،وقد أرّخ بعض الشعراء لإحدى تلك الملاحم برثاء شهداء (وثبة كانون الثاني 1948)ومنها القصيدة التي رثى بها محمد مهدي الجواهري أخاه جعفر الجواهري أحد الذين سقطوا برصاص الشرطة الملكية على جسر الشهداء،و ألقاها في حفل التأبين المقام في جامع الحيدر خانة وقتذاك،وكان مطلعها :
أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ. بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ
ولست في معرض السرد التأريخي للجرائم التي نفذتها حكومات نوري السعيد وأمثاله من عبيد الإستعمار البريطاني ضد الحركات الوطنية،لكثرتها، لكنني سأكتفي بأبشعها صيتاً،ألا وهي إعدام يوسف سلمان يوسف (فهد)مؤسس الحزب الشيوعي العراقي ورفيقيه (حازم)و(صارم) في شباط العام1949.
أرجو من (الشريف)الحجازي أن لايزايد على العراقيين في إدارة شؤون بلادهم،وأن يعي أن هذا الشعب تكتنز ذاكرته مشاهد دموية وقصف بالطائرات وإبادة جماعية لعشائر في الجنوب ولتجمعات وقرى الآشوريين وغيرهم،قامت بها حكومات تحت التاج الحجازي الذي حكم العراق.
ورُبَّ قَوْل..أنفذُ مِنْ صَوْل.