عبدالزهرة محمد الهنداوي||
فرق كبير بين ان تدخل المعركة (اي معركة) بمعنويات عالية، مؤمنا بها، وبين ان تدخلها مهزوزا، غير مطمئن للنتائج، ففي الاولى ستخرج منتصرا، بصرف النظر عن طبيعة الأسلحة التي ستستخدمها في المعركة، سواء أكانت اسلحة تقليدية ام غير تقليدية، وفي الثانية، سيتمكن منك عدوك بسهولة وينهي المعركة لصالحه، ربما من الجولة الاولى او الثانية..
بهذه المقاربة، دخلت معركتي التي خضتها، مرغما، ولم يكن لي خيار، سوى قبول المنازلة، حتى اخر لحظة، فأما ان اكسبها، بما وطنت عليه نفسي، او أكون من الخاسرين، وكلا الاحتمالين، وارد وقائم بقوة..فهي في نهاية المطاف، معركة، بين طرفين، لاشك ان احدهما سيربح ويخسر الاخر..
وهنا اتحدث عن معركتي الضروس، مع فيروس كورونا، الذي هاجمني بغتة، معلنا الحرب من طرف واحد، اذ لم تنفع معه، كل الوسائل السلمية، التي كنت اسعى إلى انتهاجها، ومنها، التباعد القسري، وارتداء الكمام والكفوف، في الحل والترحال، فضلا عن التعقيم والتعفير، المبالغ به احيانا، كل ذلك لم ينفع، فوجدت عدوي وقد اغلق كل السبل، وبدأ يهاجم بقوة وشراسة، في وقت لم اكن فيه قد أعددت العدة، لحرب لا اعلم مداها، هل ستطول ام تقصر، هل سيتمكن مني عدوي، ام ان ما يقوم به ليس سوى استعراض قوة فارغة؟!!..
وبدأت الحرب، بأول معركة، عندما شن كورونا هجوما مباغتاً، في ساعات الضياء الاولى، تمثل هذا الهجوم، باغلاق منافذ الاوكسجين، الذي انخفض إلى مستويات خطيرة، وفي تلك اللحظات الفاصلة، كنت أمام خيارين، أما ان ارفع الراية البيضاء ويأخذني عدوي معه كما أخذ اخرين قبلي، وهنا لن تكون لي اي قيمة تُذكر، او اصمد قليلا حتى تتكسر تلك الهجمات، لم يكن الأمر سهلا، فقد شعرت بغشاوة شديدة، وجحظت عيناي، ولكن مازال في قوس المقاومة منزع، وبعد قتال عنيف دام نحو ١٠ دقائق، تمكنت من الوقوف، والخروج إلى الهواء الطلق، ومارست بصعوبة، تمرينا تنفسيا، وقمت ببعض الحركات، عند ذاك شعرت بتحسن كبير، وهنا ترسخت عندي فكرة إمكانية الانتصار، طالما هزمت عدوي في اول جولة، هذا الشعور منحني قوة نفسية كبيرة، واستعدادا لتلقي الهجمات المتوقعة المقبلة، اذ من المؤكد، ان عدوا قذرا مثل كورونا لن يتركني، لاسيما بعد الهزيمة التي مني بها قبل قليل..
وهكذا تواصلت الهجمات الكورونية، في كل الأوقات، (وهن عام، ارتفاع في درجات الحرارة، جفاف فظيع في الفم والحلق، اسهال، رغبة في التقيؤ، مع سعال مثير للقرف)، وهنا، اصبح الأمر مختلفا، اذ يجب ان أضع خطة للمواجهة، على مستوى التكتيك والستراتيج، وهذا يتطلب تنظيم خطوطي الدفاعية بنحو محكم، وتهيئة ما لدي من أسلحة، وقد تطلب مني ذلك، عدم النوم مطلقا لعدة ليال، لأني اكتشفت ان عدوي، يحاول جاهدا استغلال ساعات النوم لشن هجماته، وكانت أقوى تلك الهجمات قد تمثلت بمحاولته إغلاق منافذ الاوكسجين لأكثر من مرة ،ولذلك كنت حريصا على تفويت مثل هذه الفرصة عليه..
وكانت الخطة التي وضعتها، تسير بمحورين، الأول يكون باستخدام الأسلحة التقليدية(الأدوية والعلاجات والعقاقير، ضمن البرتوكول العلاجي لفيروس كورونا، الذي اتفق عليه الأطباء) وقد كنت حريصا على الالتزام به بدقة عالية،..
اما المحور الثاني، فتمثل باستخدام الاسلحة غير التقليدية، وهذه كان لها ابلغ الاثر في قهر العدو، وجعله يترنح، من شدة الضربات التي لم يكن يتوقعها مطلقا، ومن بين الاسلحة التي استعملتها بمهارة ، تقوية الحالة النفسية، وكان هذا السلاح الأمضى ، فبعد كل جولة قتال أخوضها، اشعر اني اصبحت اكثر عزيمة وان نهاية الحرب باتت وشيكة، كما انني كنت حريصا، على استثمار ساعات الفجر الرائعة، من الساعة الرابعة، الى السادسة صباحا ، اذ اكون خلال هذه الدقائق في الهواء الطلق، اتأمل صفحة السماء المتلألئة بالنجوم الجميلة، فمثل هذا المشهد لم اتمتع به منذ سنوات طوال، فكان ذلك يعيدني الى ايام الطفولة النزفة،.. وتحت قبة السماء الصافية والهدوء الذي لايعكره سوى"جعير" المولدات في ظل الغياب التام للكهرباء الوطنية! كنت أمارس بعضا من التمارين الرياضية وتمارين التنفس، وهذه كانت ترعب عدوي، الى ذلك كنت الجأ الى بعض العادات القديمة، في مثل هذه المواجهات، ومنها استخدام عملية استنشاق بخار الماء لعدة مرات في اليوم، وهذه العملية كانت تمنحني هدوءا واضحا في عملية التنفس، وتسهيل نوبات السعال الحادة، ناهيكم عن تناول مشروبات الأعشاب الدافئة وبنحو مكثف، ، وكل تلك الأسلحة، لم يكن عدوي يتوقع توافرها في مذاخري، ما جعله مرتبكا، في هجماته اللاحقة..
ليس هذا وحسب، إنما الذي عزز من قدرتي على الدفاع والمقاومة، هو ذلك الدعم المنقطع النظير الذي تلقيته، من الاهل والأقارب والأصدقاء والزملاء على نطاق الوطن، وهنا لابد من الإشارة إلى الموقف البطولي المشارك في المعارك بشكل مباشرة، لأسرتي الصغيرة، التي بذل أفرادها جهودا غير مسبوقة، في الحرب ضد كورونا، فعلى الرغم من انني كنت محجورا، الا انهم كانوا يقاتلون بشراسة، من خلف الأبواب، وهذا أعطاني، دفقا معنويا هائلا، كما انضم إلى الفريق المقاتل معي، ابنتا اخي غير مباليتبن بمخاطر المعركة، وما قد تتعرضان له من بطش كورونا بهما، فهو عدو بلا أخلاق..
أما في تفاصيل المواقف الأخرى، فقد حملت لي الكثير من الدعم الواسع، فبين اتصال ورسالة، وسؤال، كانت الهاتف يحمل الي اجمل المواقف وانبلها، من أصدقاء وزملاء كانوا على استعداد لتقديم اي شيء، ولا شك ان اتساع دائرة الدعم الكبير، من البصرة إلى ذي قار وواسط وميسان وبابل والمثنى والديوانية وبابل وكربلاء والنجف مرورا ببغداد وصعودا إلى الانبار وديالى وصلاح الدين ونينوى، وصولا إلى اربيل والسليمانية ودهوك، أرعبت تلك المواقف عدوي كثيرا، وأشعرته باليأس والإحباط، ولم يعد لديه شيء يراهن عليه، سوى بعض المواقف التي كان أصحابها يرتجفون، عندما يتصلون بالصدفة ويعلمون إني مصاب بالكورونا، فيغلقون الهاتف بصورة مرتبكة، ثم لم يعاودوا الاتصال بعدها!!
وهكذا استمرت المعارك الضارية بيني وبين جيوش كوفيد ١٩ ست ليال، شهدت الكثير من عمليات الكر والفر، ولكن دائما كانت كفة الكر تميل لصالحي، اذ سرعان ما يتقهقر العدو، تاركا خلفه اثار قتال شرس وعنيف، ثم بعدها بدأت وتيرة القتال تتراجع، وهنا اكتشفت ان عدوي بدأ يترنح فعلا ، ولكنه يحاول جاهدا التمسك بموقع بسيط هنا او جيب مظلم هناك، من خلال اثارة جلبة نوبات من السعال، بأوقات مختلفة، ولأنني اطمأننت الى حسم الحرب لصالحي، فقد بدأت بعمليات مسح وتمشيط هادئة لجميع المواقع التي اتوقع فيها تواجدا للعدو، من خلال الركون الى الهدوء، ومعاودة الاكل بعد توقف عنه لعدة ايام، وكذلك استطعت الظفر بعدة ساعات من النوم بين منتصف الليل وحلول لحظات الفجر الاولى،، لتبدأ بذلك المرحلة الثانية من الحرب، وهي مرحلة القضاء على العدو تماما وإعلان النصر ، الذي تحقق بنحو نهائي بعد حرب استمرت لأكثر من خمسة عشر يوما، بمرحلتيها الاولى والثانية..
ان خوض حرب مثل هذه التي خضتها ضد عدو غير مرئي، ولكنه ليس سهلا، فهذا العدو هز العالم باسره، واربك حسابات الدول العظمى، بعد ان فتك بها ايما فتك، لاشك ان حربا مثل هذه، افرزت لنا وعلمتنا الكثير من الدروس المهمة، التي ينبغي ان نفهما بعمق، كي نسفيد منها في المقبل من ايام حياتنا، التي كان عدونا يسعى لوضع حد لها، او على الاقل لتستفد منها اجيالنا المقبلة، في التعامل مع هكذا مواقف وحروب..
فقد علمني عدوي "كورونا" ان الكثير من القضايا والأشياء التي لم نكن نعيرها ادنى اهتمام، ولكن الاصابة بكورنا ، اشعرتنا بقيمتها واهميتها، ومنها الاوكسجين الذي نتنفسه، كم هو ثمين، فكل لحظة من لحظات الاختناق، تجعلك مستعدا لان تدفع كل شيء من اجل الظفر باستنشاقة اوكسجين واحدة تجعلك قادرا على التنفس والبقاء على قيد الحياة..
اما علاقاتنا الانسانية ، فكم حري بنا ان نرممها ونجعلها في احسن حالاتها، فقد حرمني عدوي، لنحو شهر من ان احتضن واقبل أولادي، فلذات قلبي وهذا كان يؤلمني لحد الوجع...
كما علمني عدوي، ان علينا ان نعيد النظر بجميع سلوكياتنا، سواء المتعلق منها بنظامنا الغذائي المبنى على سلسلة من الأخطاء القاتلة، التي سهلت كثيرا من مهمة كورونا!.. او تلك المتعلقة بالتعامل مع بيئتنا وواقعنا وما يتعلق بها من أهمية في المحافظة على حياتنا سليمة..
والأهم من ذلك، ان عدوي منحني فرصة كبيرة لإجراء حوارات معمقة مع الذات، والوقوف على مواطن الخطأ والخلل في الكثير من المفاصل..
وثمة الكثير من التفاصيل، التي شهدتها تلك المعارك التي خضتها مع فيروس كورونا على مدى ١٥ يوما، كانت حافلة بالكثير من الدروس والعبر والمواقف، كما انها حملت في ثناياها الكثير من الجمال،
ومثلا ، في كل معارك الاوكسجين التي كانت الأشد، كنت رافضا بنحو قاطع، اللجوء إلى التنفس عبر جهاز الاعطاء، لأني كنت اتخيل عدوي يقف امامي ضاحكا ملء شدقيه، منتشيا بالانتصار، وفي المقابل، تأثير هذا المشهد على معنويات الفريق المقاتل معي، الذي كان يزداد بأسا كلما رفضت أَخْذ الاوكسجين، وخرجت من المنازلة منتصرا..
ولعل الأهم في كل تلك التفاصيل، هو ان يعيش الانسان تجربة، لم يكن راغبا في خوضها، بل كان يخشاها او حتى مرعوبا منها، ولكن بعد خوضها والخروج منها منتصرا، سيكون أقوى في اي مواجهات أخرى قادمة، ذلك ان المرء لايشعر بقيمة وطعم الحياة الا عندما يكون عند حافة حادة من حوافها، قد تلقي به بعيدا عن هذه الحياة.. نتمنى السلامة للجميع..
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha