محمود الهاشمي ||
منذ ان تفجرت الثورة الاسلامية في ايران عام 1979، والثيمة الاساسية لها انها جاءت من اجل نصرة المظلوم والوقوف بوجه الاستكبار العالمي.
ادركت الولايات المتحدة ان "خطر" الثورة الاسلامية يكمن في العداء المطلق لها ولعملائها في المنطقة وخاصة اسرائيل، لذا سرعان ما اعلنت عن عدائها لها، عبر سلسلة من الاجراءات لاسيما في الاعلام الذي شكك كثيراً في ان رجال الدين قادرون على ادارة الدولة.
واجهت قيادات الثورة الاسلامية التحديات الغربية بردود استراتيجية بدلاً من "الانفعال" والرد السريع الموازي كما اعتدناه لدى الدول الاخرى، وهذا هو سر بقائها وثباتها ،فيما تهاوت دول واقطاب كبرى بحجم الاتحاد السوفيتي واوربا الشرقية وغيرها.
لم يمض على عمر الثورة الاسلامية الا اياماً حتى بدأ طلبة الجامعات الايرانية يتجمعون امام السفارة الامريكية في طهران واطلقوا عليها "وكر التجسس" ثم هاجموها واعتقلوا حراسها وموظفيها والبالغ عددهم "52" شخصاً واستولوا على ارشيفها، واصبح هؤلاء "رهائن " وطالب الطلبة مقابل الافراج عنهم الافراج عن الاصول الايرانية المجمدة في امريكا، وتسليم الشاه محمد رضا بهلوي لمحاكمته، وقد قامت امريكا بعملية عسكرية فاشلة لانقاذ "الرهائن" حيث تحطمت طائرتهم المتطورة وقتل جنودهم في عاصفة رملية بصحراء "طبس" فاستفادت الجمهورية الاسلامية من ذلك كثيرا بالتعبئة "الدينية" في ان الله سبحانه وتعالي نصرهم على الاستكبار العالمي "وما رميت اذا رميت ولكن الله رمى "وكانت نكسة لامريكا وجبروتها انتهت باستقالة حكومة الرئيس "كارتر" في وقتها، والسؤال: كيف استطاعت ايران يومها احتجاز عناصر امريكان طوال (444) يوماً في ظل الهيمنة الامريكية على العالم وامكانياتها المادية والعسكرية، وفي واقع ثورة حديثة العهد؟
حركت امريكا عملاءها بالمنطقة ليقود النظام الصدامي حرباً على الجمهورية الاسلامية وعلى مسافة (1450) كم حيث طول الحدود العراقية الايرانية، وبدلاً من ان تجلس القيادة الايرانية ملومة محسورة استنفرت قواتها رغم صعوبة الموقف فقيادات الجيش مازال ولاء اغلبهم الى الشاه ومازال الداخل الايراني صعباً والصراع مع العلمانية ودعاة الحياة الغربية يحتلون جزء من الشارع، ورغم معاناة تشكيل الحكومة ومارافقها من تداعيات، الا ان الامام الخميني قال عن الحرب "الخير فيما وقع" فكانت وسيلة لاعادة تعبئة الجيش وتطهيره،وكذلك بناء الحرس الثوري ليكون العنوان الاكبر للجمهورية الاسلامية في الدفاع عن سيادة البلد وحماية الداخل والخارج وتشكيل العمق الاستراتيجي للثورة الاسلامية، ناهيك عن مشاركته في الاعمار والتطور الذي شمل البلد.
في 28 تموز عام 1981 وفي المقر الرئيس للحزب الجمهوري الاسلامي "الحزب الحاكم" في طهران واثناء انعقاد اجتماع لقادة الحزب حدث لنفجار هائل ادى الى استشهاد "73" مسؤولاً بالحزب من بينهم قاضي القضاة اية الله محمد بهشتي واربعة وزراء "الصحة ، النقل، الاتصالات، الطاقة" فضلاً عن سبعة عشر عضواً في المجلس والعديد من المسؤولين الحكوميين، وقد اعلن مجاهدو خلق مسؤوليتهم عن التفجير، وكان الامر محرجاً لثورة لم يمض على انطلاقها الا اشهر لكن الحكمة والتخطيط الاستراتيجي جعل القيادة تعيد ترتيب اوضاعها الحزبية اولاً بتشكيل "حزب الله" الذي كان اكثر تاثيرا وشمولية في قيادة الامة كونه مشتق من الاية الكريمة " الا ان حزب الله هم الغالبون".وكذلك في ملاحفة العملاء والقبض عليهم وافشال مشاريعهم التآمرية .
كانت عملية صناعة حكومة اسلامية هي الاصعب على قيادة الثورة الاسلامية حيث ليس امامهم من نموذج قريب يحتذون به وكل ما كان هو مجرد دعوات لدعاة اسلاميين ومفكرين وكتاب فيما تملاً رفوف المكاتب العربية والاسلامية والعالمية المجلدات التي تدعو الى "فصل الدين عن السياسة" فكان انتصاراً كبيراً لمشروع حكومة اسلامية ,وتطبيق "المنهج الاسلامي "في جميع مناحي الحياة وان تكون الدولة راعية للدين الحنيف دون ان تقسر شعبها على ذلك، فيما استطاعت وفق هذه العقيدة ان تضع دولة نموذجاً وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تسمي نفسها بـ "الاسلامية" بعد ان نجحت في جميع مجالات التطور الصناعي والزراعي والتقني والعسكري وفي المجال النووي ايضاً.
ورثت الجمهورية الاسلامية الايرانية برنامجاً نووياً في فترة خمسينيات القرن الماضي، وقد تم تطويره على مراحل بعد الثورة الاسلامية خاصة بعد عام 1989 في الاغراض السلمية وبعد عام 2003 طورت مفاعلاتها وبحوثها مما اثار غضب اسرائيل فراحت تضغط على الولايات المتحدة ودول الغرب والتخطيط لاغتيال العلماء الايرانيين الى درجة ان احد اعضاء مكتب نتنياهو قال :" ان الاجواء في مكتب نتينياهو كانت تقترب من الهستيريا" وفكرت اسرائيل بان تقوم بالهجوم على المفاعل النووي الايراني حتى دون التنسيق مع امريكا لكنها عجزت ، فكان الاتفاق (5+1) بين اعضاء مجلس الامن الدائميين بالاضافة الى المانيا وايران ,لكن امريكا انسحبت منه في عهد ترامب ، وهنا نسأل : كيف استطاعت ايران ان تحول "ازمة المفاعل" الى اتفاق دولي والى ضمان مصالح وامتيازات لدولتها وان تحدث شرخاً بين دول اوربا وامريكا بعد ان انسحبت الاخيرة؟ ذلك هو التفكير الاستراتيجي فلم تترك مفاعلها نهباً للصواريخ والطائرات كما حدث للعراق ولا ان يفكك مثل دول اخرى ومازال المفاعل عنصر ضغط على اعداء ايران ومصدر قوة للدول المناهضة لامريكا واسرائيل.
في 1-3-2020 اغتالت امريكا الشهيدين قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي ابو مهدي المهندس، في طائرات مسيرة قرب مطار العاصمة بغداد ، وكانت عملية غدر واضحة ، وقد اعترف الرئيس الامريكي بانه وراء ذلك.
جميع الاوساط توقعت ان يكون الرد عسكرياً او باغتيال شخصية تقارب شخصية الحاج قاسم، فماذا كان الرد؟،لم تكن عملية قصف قاعدة عين الاسد في العراق والتي تأوي جنوداً امريكان هي الرد، بل كانت مجرد ايضاح للعالم ان ايران قادرة ان تضرب اي هدف تختاره وباعمق نقطة وهي المرة الاولى التي تتجرأ فيها دولة ان تضرب قاعدة امريكية منذ الحرب العالمية الثانية، لكن الهدف الاستراتيجي لايران خروج القوات الامريكية من المنطقة ،وها هو الهدف يتحقق عبر سلسلة ضربات للقواعد والقوافل للقوات الاميركية بالعراق لها لتشرع بالانسحاب من العراق وسوريا وافغانستان والصومال الخ ، والسؤال: ماذا لو قامت ايران باغتيال شخصية امريكية كانت من تكون؟ الجواب سوف تاتي امريكا بمن هو اقبح منه ولكن خروج القوات الامريكية من المنطقة يعني انسحاب نفوذها معها ،وهذا هو الرد الاستراتيجي.
قبل ايام تم اغتيال العالم الايراني محسن فخري زاده والاصابع تشير الى اسرائيل وامريكا .عملية الاغتيال اثارت ضجة عالمية بحيث ان صحف ووسائل اعلام افردت لها مساحات واسعة من التغطية وجميعها تدعو ايران الى الثأر فيما شكك كثيرون بامكانية الرد باعتبار ان هذه ليست المرة الاولى التي يتم فيها اغتيال علماء ايرانيين حيث سبق العالم محسن زاده ثلاثة علماء ايضاً قد أغتيلوا .
تمتاز الجمهورية الاسلامية بـ"الصبر الاستراتيجي" واغتيال عالم صهيوني لن يغير في المعادلة من شيء فاسرائيل مفاعلاتها مكتملة وتمتلك اكثر من 70 رأساً نووياً والرد العسكري سوف يشعل المنطقة ويوفر فرصة لامريكا والغرب بالعودة بدعوى "سخونة الاوضاع" وحاجة اصدقائها للمساعدة ثم ان تداول السلطة في الولايات المتحدة مازال حرجا وما هي الا ايام لتتضح الصورة وعندها لكل حادثة حديث.
ايران راهنت على انهيار الاتحاد السوفيتي وقال الامام الخميني يومها "ستصبح الشيوعية في متحف التاريخ "وانهار الاتحاد السوفيتي وتفردت امريكا بالعالم وطغت وراهنت ايران على انهيارها ,قال الامام خامنئي "قريباً ستنهار امريكا وستزول اسرائيل" وها هي علامات الانهيار قد لاحت حين يقول الرئيس الامريكي السابق اوباما :" نحن منقسمون جداً"
لم تتعرض دولة في العالم الى حصار اقتصادي مثلما تعرضت له ايران فلم يبق نوع عقوبة جماعية اوفردية الا وفرضته وبدلاً من البكاء على "الم العقوبات،كان "الرد الاستراتيجي "عبر الاكتفاء الذاتي فتحولت ارضها الى معامل ومصانع والى ورش ومراكز علمية وفكرية والى بناء واعمار لدرجة انك حين تدخل بلادهم لا تجد بضاعة الا وكتب عليها "صنع في ايران" فيما عبرت بضاعتها المحيطات والبحار وبمتانة وتقنية عالية.
ان صبر وصمود ايران وفر فرصة لنشوء قطب جديد من الصين وروسيا والهند ودولاً عديدة اخرى كما وفر فرصة لنشوء المقاومة الاسلامية التي باتت تغطي مساحة كبيرة من المنطقة.
https://telegram.me/buratha
