حمزة مصطفى||
جميلة هي المقدمة التي كتبها الدكتور أحمد الزبيدي لكتاب صديقه وصديقنا الدكتور جمال العتابي الذي حمل عنوان "داخل المكان" الصادر عن دار سطور, ثم أردفه بعنوان فرعي هو "المدن روح ومعنى". يقول الزبيدي " مابين صمت تراتيل (الغازية) وخفوت صلاتها, وأمهاتها اللواتي يلدن دونما ضجة ودونما صخب. و(الحرية) التي كورّت عراقا مصغرا يضم نخبة من الصانعين للثقافة العراقية الجديدة, مابين فطرية المكان الأول وحرفية الثاني بزغت شخصية جمال العتابي". يشرح في باقي السطور تكوين جمال الأسري والأيديولوجي الذي هيمن على علاقته بالمكان عبر أزمان مختلفة توالت عليه خلالها الأفراح إن وجدت والنوائب وما أكثرها ومن بينها نوائب السياسة أو بمعنى أكثر وضوحا خيبة الأيديولوجيا.
ومع أن كتاب العتابي "داخل المكان" من الحجم المتوسط ولاتزيد صفحاته عن 176 صفحة الإ أنه يختصر الى حد كبير تاريخ العراق عبر نصف قرن تقريبا (العتابي من مواليد آواخر الأربعينات من القرن الماضي .. خل يزعل لأني كشفت عمره) بكل تقلباته الأديولوجية والسياسية وعبر مختلف الأنظمة التي عايشها جمال بين العهدين الملكي والجمهوري. في العهد الملكي ولد جمال وترعرع في قرية تحولت فيما بعد الى ناحية إسمها (الغازية) تيمنا بإسم الملك غازي, لكن ثورة 14 تموز عام 1958 "خلت عقلها" مع هذه القرية فأطلقت عليها (النصر) ويبدو أن هذه التسمية صمدت عبر العهود التالية حتى اليوم!! لكن تكوين جمال السياسي والفكري والثقافي تبلور في مدينة الحرية ببغداد التي أفرد لها مساحة كبيرة من الكتاب مستعرضا كل شئ فيها بمن في ذلك من برز من بين أبنائها على كل المستويات السياسية والثقافية والفنية والرياضية وسواها.
الحرية المدينة التي بالفعل أختزل إسمها الى "المدينة" هي بالنسبة لجمال عراق مصغر بقدر مايتنافس فيه الفنانون والمثقفون والرياضيون يتصارع فيها السياسيون بمن فيهم عزة الدوري الذي لم يكن يلفت نظر أحد في ستينيات القرن الماضي سوى إنه كان يبيع الثلج بالقرب من مقهى (نعيّس) الكائن في منطقة الجمعية بمدينة الحرية. هكذا يخبرنا جمال قائلا "في مقهى نعيس لون آخر من الرواد, يملؤن المقهى بالضجيج وقرقعة قطع الدومينو الى ساعات متأخرة من الليل, فارسهم عزة الدوري الذي يبيع الثلج في كشك أمام المقهى". ولأن المدينة شهدت أولى إنطلاقة فاضل عواد من خلال أغنية "لاخبر" التي نالت شهرة واسعة وكاظم الساهر من خلال أغنية "جرة الحبل" فإن مماميز جو الحرية أجواء حرب حزيران عام 1967 التي كانت تهيمن على المقهى طوال الأيام الستة عبر أغنية فهد بلان "حنا للسيف, وحنا للضيف .. ياويل .. ياويل ..ياويل" فإن من المفاجآت التي حرص العتابي على توثيقها ماحصل بعد 17 تموز عام 1968 والتي لفتت نظره بقوة يلخصها بهذه الكلمات "لم نعرف على بعد خطوات من المقهى أن بائع الثلج يتأهب من أيام تموز الأولى عام 1968لتوديع كشكه الخشبي في رحلة نحو أعلى المراتب" بعد أن كان يقضي الليل في لعب الدومينو يراهن, يخسر, يربح. لم يعثر جمال العتابي بعد على بائع الثلج. لا نعرف إن كان فتش كل الأمكنة جيدا أم تركها لزمن كفيل بالتعامل مع المكان روحا ومعنى.
ــــ
https://telegram.me/buratha