ابراهيم العبادي||
سيرحل دونالد ترامب من البيت الابيض في غضون ايام ،لكن الاخلاق الترامبية ستمكث كثيرا في عالم السياسة ،فقد مثل هذا الرئيس الخامس والاربعين للولايات المتحدة الامريكية ظاهرة بذاته ،لكنها ظاهرة غير مفصولة عن بيئتها الاجتماعية والسياسية ،انها ظاهرة الزعامات الشعبوية التي تأتي بأساليب وأليات ديمقراطية ثم تحاول الانقلاب على الديمقراطية ذاتها تشبثا بالسلطة ، ماكانت امثال هذه الشخصيات تصل الى قمة السلطة لو لم تكن تتقن مغازلة المشاعر الجياشة للفئات الشعبية التي ترنو الى تغيير المشهد ،تلك الفئات التي ملت السياسيين المحترفين وضاقت ذرعا بالمؤسسة السياسية ومخرجاتها من احزاب وحزبيين وزعامات تتناوب على السلطة ووسائل اعلام مملوكة للاحزاب .
بتوالي الأزمات السياسية والامنية وتعقد المشكلات الاقتصادية والبيئية ،وتضعضع المركز القومي للفئة السكانية الاكبر وافول هيمنتها ، تتوالد مشاعر غريزية واتجاهات عنصرية ورغبات مكبوتة ضد الاجانب والاقليات والهجرة والعولمة والاسواق المفتوحة ، يستثمرها السياسي الطموح ليقدم وصفة حلول وبرنامجا انتخابيا يناغم مشاعر الجمهور المحبط التواق الى التغيير ، فعلها من قبل هتلر في المانيا ثلاثينات القرن المنصرم وبنسخة مخففة الزعيم اليميني الايطالي برلسكوني في تسعينات القرن الماضي والعقد الاول من القرن الحالي ورئيس الوزراء الهنغاري اليميني فيكتور اوربان ، ومازالت الشعبوية تنمو في اماكن عديدة في اوربا وامريكا اللاتينية وهي تنتشر في كل البلدان التي تحتاج الى تغيير سياسي حاسم يضع حدا للسياسات التقليدية .
بالجملة ثمة اتجاه كبير يغزو العالم ،اتجاه يميني رافض لمكاسب الليبرالية السياسية والاقتصادية ،ينزع نحو التمركز ،يرفع شعار (الانا )اولا ،ويضع مصالحه فوق كل اعتبار سياسي وامني ، متمردا على الاتفاقات والمعاهدات والنظم التي تحفظ مصالح الجميع .
هذه ظاهرة تكاد تصبح عالمية ،قيمها الصلف وازدراء اخلاق السياسة التقليدية والقفز على المألوف من السلوك العقلاني وسلاحها الابتزاز والتشهير ،وخطابها التهديد ومفرداتها استفزازية فظة.
اغلب العراقيين يكرهون ترامب الشخص ويطالبون بالثأر منه ،لكن المسكوت عنه هو الظاهرة الترامبية الشعبوية التي نعيش في ظلالها ، وتعشعش في سلوكنا ، وتسكن في اعلامنا وتسيّر فكرنا اليومي ،فحينما تغيب العقلانية عندنا في معالجة قضايا الامن والحكم والسياسة والعلاقات الخارجية والاقتصاد والتشغيل والتوظيف وتوزيع الثروة وادارة النزاعات والصراعات بين الطوائف والاحزاب والكتل ،هل نستطيع التنصل من الظاهرة الشعبوية في اوساطنا ؟ حتى نرمي بها غيرنا ،هل امتاز تيار عن اخر في سلوكه السياسي وفي خطابه الاعلاميي ؟ اين التيارات العقلانية التي تفكر في بناء الدولة باساليب ديمقراطية وليس باساليب انقلابية عنيفة ، تستخدم الديمقراطية جسرا ومعبرا وقنطرة الى السلطة ؟!،لازالت الغرائزية والثأر واللاعقلانية هي المتحكمة في اغلب سلوكنا السياسي وخطاباتنا الاعلامية وعلاقاتنا العامة ،صحيح اننا في بداية الطريق الى الديمقراطية وتسلسلنا في المؤشرات العالمية 118 من مجموع 168،وامريكا التي عاشت 250 عاما من الديمقراطية عانت ماعانت وحصد ترامب 75 مليونا من اصوات مواطنيه رغم غرائبية سلوكه ، ورغم قوة المؤسسة والتقاليد والاعراف والقيم ؟ ،ربما يقال ان المقارنة غير جائزة وليست صحيحة ، فنحن بلاقيم ديمقراطية ولااحزاب تؤمن بقيمها وافكارها ،الديمقراطية عندنا معبرا للسلطة ولتزكية الصعود اليها ،لكن الا تشير خطابات القوى المتخاصمة والمتصارعة على السلطة ، اننا نفتقد الحد الادنى من لياقات السلوك المدني الذي هو شرط قيام الدولة واستحكام مؤسساتها وقيمها واعرافها !!؟؟.
امامنا اشهرا على الانتخابات ،والتحضيرات الحزبية لها تعكس تمكن الشعبوية من السلوك الانتخابي ،وفي سر اسرارنا هناك من يحسد ترامب على قدرته الفائقة في التحشيد ومحاكاة الغرائز ،ونحن في العراق اخر مانحتاجه هو غرائزية السياسة .
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha