محمد الجاسم ||
تشير التقارير المتوفرة في دوائر مكافحة الفساد المالي والإداري في العراق، الى إن الفساد في الإدارة العامة لا يضرُّ بالمصالح العليا للبلاد ،من حيث تسببه في تأخر وتخلف المجتمع والبنية الأساسية للدولة ،وحسب، لكنه في النهاية ،يضرُّ بالأفراد المواطنين واحداً واحداً. ومن أخطر مظاهر الإضرار من هذا النوع ،هو تأثير الفساد العام مباشرة على القدرة المعيشية لهم، و فقدانهم الثقة في الدولة والإدارة .
يدّعي الكثيرون من المسؤولين ،من مستوى رئيس مجلس الوزراء، نزولاً الى موظفين صغار، وزعامات وأعضاء أحزاب متمكنة من دفة السلطة ،أن عليهم التصدي للفساد بكل نوع من أنواعه ،ومن أية جهة بدا، مهما "علت أو دنت !"،لكن الحقيقة أن لا أحدَ من هؤلاء تمكّن ـ ضمن حدود مسؤولياته التنفيذية والتشريعية والقضائية ـ من منع الفساد عبر تنظيم قواعد سلوك واضحة للموظفين ،وكذلك العمل المشترك الحثيث مع الهياكل التنظيمية التي تحدد بوضوح، المهام والمسؤوليات المختصة بالرقابة المالية والنزاهة ونظافة ذات اليد. وغالباً ما ترتبط انتهاكات النزاهة المتوقعة بأشكال الفساد المختلفة، بجهات حكومية، وبدرجة أقل، بجهات سياسية متحكمة بالوزارات ،من خلال سلوك المحاصصة الوظيفية التي سادت العملية السياسية في العراق منذ سقوط النظام البعثي مؤسس الفساد المالي والإداري والسياسي والأخلاقي في البلاد.
تتوارد الى الأجهزة المختصة ووسائل الإعلام يومياً ،معطيات على شكل ملفات وإشعارات، يتم بها تجاوز الحدود المتعارف عليها للفساد في بعض الأحيان، قبل حدوث انتهاك للقواعد المكتوبة في الدستور أو القانون. وانطلاقاً من هذه المعطيات، بالإضافة إلى منع الفساد بالمعنى الضيق ،وإعلامياً فقط ، يتعين على الدولة التعامل مع المفهوم الأوسع للنزاهة، وفق القواعد المتوفرة في الدستور وفي القوانين النافذة ذات العلاقة، دون اللجوء الى تشكيل لجان وهمية وتشكيلات لا تحمل أية صفة قانونية، لمجرد أنها تم تشكيلها بأمر ديواني أو غيره، ولذلك نرى أن مثل هذه اللجان تتعرض الى الطعن والاتـهام بانتزاع الاعترافات بالقوة والتعذيب والصعق بالكهرباء، خلافاً للأعراف القانونية والأخلاقية، وهذا ما أعلنه أعضاء في مجلس النواب ،كانوا قد زاروا المعتقلين.
كم نحتاج من الوقت ، كشعب حديث العهد بالديموقراطية ،كي نُرَسِّخَ قواعدَ السلوك العالمية ، في تفاصيل أدائنا الوظيفي والتجاري والاقتصادي، من الصدق والنزاهة والمطالبة بأخلاقيات العمل ،كحسن النية وتأمين المنفعة المتبادلة والمعاملة العادلة في جميع علاقاتنا ؟..لا تتوفر في بلادنا باستمرار وسائل كبح الفساد في مفاصل الدولة، بسبب أن الفساد نفسه قد تغلغل في أوساط الدوائر المسؤولة عن مكافحة الفساد.
قبل تطبيق وسائل الوقاية ،نحتاج كأفراد وأحزاب ومنظمات، أن نعترف أننا تربة خصبة للرشوة والارتشاء والمساومات غير الشرعية وغير القانونية ،ثم علينا أن نشجع موظفينا على معالجة نقاط الضعف في أدائهم الوظيفي وإعلاء صوت القيم الإنسانية والدينية التي تحرّم الفساد بأشكاله أجمعها. ويجب علينا كلنا أن نربِّيَ أنفسَنا وأولادَنا، ومن هم في معيَّتِنا في العمل أو الدراسة أو أماكن العبادة، على الاستجابة الى التحقيق في الحالات المشتبه فيها ، ومعاضدة إجراءات معاقبة الانتهاكات الثابتة، التي تقوم بها الدوائر المختصة.
لعل من أفضل وسائل التصدي الرسمي، للفساد ،على الصعيد الإجرائي وليس الإعلامي، هو توجيه الأنظار وتفعيل المؤسسات الواقعية المختصة بمكافحة الفساد، والتي تحمل الصفة القضائية، كهيئة النزاهة، أو التي تحمل الصفة المالية، كديوان الرقابة المالية، ومن الجدير بالذكر أن هيئة النزاهة لوحدها، جهاز فعّال ولديه احصاءات مهولة بعشرات الآلاف بالسنة الواحدة لقضايا فساد أو تضخم في الذمم المالية لمسؤولين كبار، وبنسب إنجاز أكثر من الخمسين في المائة، ولكن الذي يجعل هذه الهيئة في موضع الشكوك والتوهين، هو التعتيم الإعلامي لفعالية هذه الهيئة، والخوف من فضح الاسماء الكبيرة من المتهمين والمدانين، الذين نالت منهم جهود قضاة ومحققي هذه الهيئة الرسمية والقانونية تحقيقاً وإدانة.
ورُبَّ قَوْل ..أنْفَذُ مِنْ صَوْل !
ناصرية ـ دورتموند/ألمانيا
https://telegram.me/buratha