المقالات

حلم بقدر معطف..!

1611 2021-03-04

 

د.نعمه العبادي||

 

يحايث واقع الحياة الذي يسير وفق سننه وقوانيه الصارمة، هامش ندي يحاول كسر التحجر والتخشب في مساحة الواقع، ويدفع حواجز الحدود إلى الامام قليلاً، ليزيد من فسحة النور، ويوسع من مساحة التنفس، وهذا الهامش الندي المعبر عنه بالأمل والحلم لولاه لأصبحت الحياة خانقة حد الموت، وهو سنة من سننها، وليس مخالفاً لها، وقديماً قال الشاعر:

أعلل نفسي بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل..

يتسع ويضيق هذا الهامش بقدر وعي الانسان لموقعه في الحياة، وحدود قناعته بها وعنها، وتتضارب وجهات النظر في تحديد المشروع من غيره فيما يتصل بحجم ونوع الآمال التي يسمح لنا أن نعيشها ونرتجيها ونتعلق بها.

يبدع الادب الروسي في مقارباته الاجتماعية، وهو يتلمس الزوايا المظلمة في الحياة خلف الابواب الموصدة والارواح المنكسرة، وفي هذا السياق، كتب الروائي المبدع نيقولاي غوغول روايته (المعطف)، ومما ينقل عن أهمية هذه الرواية وراويها، ان عملاق الادب الروسي والعالمي دستوفسكي قال عنها: (كلنا خرجنا من معطف غوغول)..

تدور احداث الرواية القصيرة عن بطلها (أكاكي أكاكيفيتش)، والذي يعمل موظفاً بسيطاً ينسخ الاوراق في دائرته، لكنه كان يحب عمله بشكل غريب ومخلص له ومتفاني فيه، وكثيرا ما قيل، وكأنه خلق لهذا العمل، وعلى الرغم من أنه لم يزاحم أحداً في منصب أو ترقية إلا أنه كان محلاً لسخرية الآخرين وتنمرهم، رغم من مسالمته ووداعته، وقد كان يشعر في اعماقه، انه يخلد ويحافظ على نحو من الوجود المهم عبر ممارسته للنسخ.

في بطرس بيرغ المدينة القاسية في بردها يتخرق معطف أكاكي ولم يعد ممكنناً إصلاحه، واصبح لا يحمي من البرد، تتلخص احلام أكاكي المعدم بمعطف بسيط، حيث يدخل في دوامة تقتير شديدة على نفسه وحاجاته الضرورية، وهو يشيد في روحه وقلبه حلم الحصول على معطف جديد (انه حدود امنيته)، وبعد، ان اخذ الادخار والجمع والبرد والقسوة مأخذها منه، وحين ابتسم له القدر، وهو يحتفي بمعطفه الجديد، الذي كان يساوي عنده بمثابة تتويجه ملكاً للعالم، وحالما دخل دائرته مبتهجاً به وسط سخرية من نوع جديد، وفي ظروف غامضة سرق معطفه.

سرق معطف أكاكي الذي لم يكن يعني لسارقه شيئاً، ولم يفهم قيمته رجل الشرطة الذي وبخ أكاكي عندما طلب منه أن يبحث عنه، لانه في نظره لا قيمة له، ولم يدري أحد، أن أكاكي مات يوم سرق معطفه.

هكذا تموت وتسحق احلام الفقراء في ضجيج الحياة المتعسف دون ان يشعر بها من يسمون انفسهم بالكبار، ودونما يستشعرون حجم الالم والوجع الذي يرافق هذا الفقدان، كما ان هؤلاء يقابلون تلك الاحلام الصغيرة بالسخرية والتندر، لان نفوسهم الشرهة تعودت على عدم القناعة، وجاز لهم ان تكون رغباتهم من الحجم الكبير ومتاحة وميسرة في اغلب الاحيان.

لقد عبر غوغول بطريقة دراماتيكية مفجعة عن موت أكاكي الذي قال عنه: مات رجل لا يعني لاحد شيئاً، ولم يحزن عليه احد، ولم يدري احد بحلمه الذي ضاع، ولا بحياته المشحونة بالوجع..

في كل يوم في ظل عالمنا المتنمر المجرد من الرحمة يسرق ألف ألف معطف من ألف ألف أكاكي دون ان يعير أحد أي اعتبار لهذه الاحلام التي يساوي فقدانها الموت في عيون اصحابها، وهكذا يغادر الحياة الكثير من امثال أكاكي دون ان تذرف لاجلهم دمعة واحدة.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك