د. علي المؤمن ||
لا أعتقد أنك تختلف معي في أن مقولاتك ضد المنظومة الإجتماعية الدينية الشيعية، أو ماتغلفه أحيانا بالمصطلح الخاطيء "الإسلام السياسي" هو تكرار لمقولات ومفاهيم متهافتة قديمة؛ ظل يكررها المفكرون العرب والمشرقيون المهووسون بمناهج الفكر الأوربي والماركسي؛ أمثال: شبلي شميل وفرح انطون وأحمد لطفي السيد وميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وفؤاد زكريا وصادق جلال العظم ومراد وهبة ومحمد أركون وفرج فوده وعزيز العظمة وطيب تيزيني وجورج طرابيشي وغيرهم من منظري ماتسمونه أنتم بمشروع (التنوير) الإجتماعي العلماني المعاصر، ثم أسبغت عليها أدبيات الشيوعيين العرب والبعثيين مسحة ايديولوجية فلسفية اجتماعية محلية. والحقيقة أن فكر العلمانيين العرب والمشرقيين هو ترجمات للعنف الفكري الذي مارسه مفكرو ماعرف بعصر النهضة الاوربية ضد الكنيسة والفكر الديني؛ بدءاً بدنس ديدرو وجون لوك وفولتير و سبينوزا وجيمس ماديسون، وانتهاءً بخلفائهم جورج جاكوب وبويسون وبرتراند رسل. و كان يطبق هذه الأفكار في أنظمة بلداننا المسلمة طغاة مؤسسون؛ أمثال أتاتورك ورضا بهلوي وسوكارنو والحبيب بورقيبة.
وفي الوقت نفسه تتماهي أطروحاتك مع المشاكسات الفكرية لليسار الديني الايراني في الخمسينات والستينات والسبعينات؛ لاسيما أفكار علي شريعتي في كتابه الرديء "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" وغيره، والتي تخلط بين الفقهاء ووعاظ السلاطين، وتساوي بين عالم الدين والروزخون، وتحمِّل الفقيه الشيعي وزر الشيخ الوهابي. وبالرغم من أن أفكار علي شريعتي ( التنويرية) الستينية والسبعينية صارت (خرده) في ايران، وتبخرت منذ ربع قرن تقريباً؛ لكنك كغيرك من (التنويريين) الشيعة العراقيين؛ حوّلتم هذه الأفكار الى تابوهات مقدسة؛ ليس حباً بشريعتي؛ ولكن بغضاً بالتيارات الدينية. وبات هذا البغض جزءاً من أدبيات ماتسمونه "التيار المدني" أو "الدولة المدنية" أو "عقلنة الحكم" أو "فصل العقيدة عن الدولة"، وهي صيغ تقليدية من النظم الفكرية العلمانية الغربية التي ترددها قواعدكم دون وعي بمفاهيمها ودون معرفة بجذورها غالباً. ولذلك فهي ليست مشكلة قواعدكم البريئة فكرياً؛ بل مشكلتكم أنتم كمثقفين علمانيين؛ لأنكم تعلمون جيداً أن الفلسفات الإجتماعية العلمانية لايمكن أن تحكم واقع البلدان الإسلامية؛ لأنها تتعارض مع المنظومات الدينية الإجتماعية للمسلمين، ولاسيما الشيعة.
أنت تتصور أنك من خلال الدعاية المضادة الرامية الى هدم المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية؛ تساهم في توعية المجتمع الشيعي، وفي إنقاذه من سطوة الفقهاء ومن يحتمي بهم من سياسيين إسلاميين كما تقول؛ لكنك على العكس؛ تساهم في تحفيز الآخر الطائفي ضد الشيعة، وفي توفير المسوغات الفكرية والدعائية لتكفير الشيعة وذبحهم من الخصم التكفيري. كما أنك تفتح الأبواب على مصراعيها لدخول التكفيريين الى بيوت الشيعة، وتقدم لهم مادة جاهزة لضرب الشيعة في مقتل. وأنا أعلم أنك لاتقصد كل هذا، ولا تحمل نوايا الإضرار بمجتمعك وأبناء جلدتك؛ لأني أعرف تاريخك وخلفيات دعواتك؛ ولكن مآل أفكارك ودعواتك هو تكفير الشيعة وذبحهم دون أدنى شك.
أنت تتحدث عن الأمة العراقية وكأنها تعيش منعزلة في جزيرة نائية، وأن بإمكانها رسم مصيرها لوحدها؛ دون أية عقبات موضوعية وموانع مستحيلة؛ كما هو الحال مع كل أمم العالم المؤثرة والمتأثرة، ولا تضع في حسبانك (بيئة الأمة) أو (بيئة المكون الإجتماعي) وتأثيراتها وضغوطاتها، وهذه البيئة هي (الوسط الموضوعي) الذي يعيش فيه المكون الشيعي. وبالتالي لاعلاقة للفقهاء و( سطوتهم) بايجاد هذا الوسط؛ بل أن الفقهاء وشيوخ العشائر وقادة الأحزاب يعيشون أيضاً تحت وطاة هذا الوسط. وبما أن الشيعة يعيشون ـ كغيرهم ـ وفق قوانين الفيزياء الإجتماعية ( رد الفعل الإجتماعي) من جهة، وقوانين علم النفس الإجتماعي (الموروث النفسي والعقل الجمعي) من جهة اخرى؛ فإن ضغوطات الوسط الموضوعي التي تجر قسراً الى تطبيق هذه القوانين؛ تزيد من لجوء الشيعة يوماً بعد آخر ـ وبقوة أكبرـ الى الكيانات الإجتماعية المحضة، أو الإجتماعية الدينية، أو الإجتماعية السياسية، والتي يعتقدون أنها تحميهم؛ كشيخ العشيرة المتصدي وقائد الحزب الإسلامي وعالم الدين العامل؛ في مقابل الكيان السياسي القانوني ( الدولة وسلطتها)؛ لأن هذا الكيان كان ولايزال على خصومة مع الشيعة ويستهدف وجودهم.
ولأنك تؤكد بأنك صادقُ في دعواتك التنويرية، وبأن هدفك إنقاذ الوطن والمواطنين؛ فمن الأولى أن تركز على ماكنات تفريخ الذباحين ومصانعهم الوهابية في جدة والرياض ومكة والمدينة وكابل وإسلام آباد، وكذا التركيز على الدخان الطائفي المتصاعد من أروقة أزهر مصر؛ بدلاً من تحذير الأمة من سطوة فقهاء النجف وقم، ومن يحتمي بهم من أحزاب إسلامية ـ كما تقول ـ.
بل من المهم أن لاتعمم أفكارك على كل من ارتدى العمة؛ شيعياً كان أو سنياً، أو على كل من انتمى لتيار إسلامي.
وأخيراً؛ بما أنك تؤكد على المنهج العلمي في دعواتك؛ فلماذا تتعمد الخلط بين مشايخ الحكومات و وعاظ السلاطين؛ الذين يلوون عنق الدين ويصادرون عقل الأمة ويكفرون الآخر وينشرون الكراهية ويشجعون على الطائفية؛ خدمة لسلاطينهم، وبين فقهاء النجف المسالمين الداعين الى حقن الدماء والسلام وتلاحم الشعب ونبذ الطائفية والعنصرية، وتعدهم جميعاً كهنة معابد السياسيين؟!.
ملاحظة: لم أنشر رسالتك واسمك؛ حتى تأذن لي
https://telegram.me/buratha