حسين فرحان ||
خمسون عاما مضت حملت معها عطاء من دم وصبر.. عطاء من أسى وقهر.. عطاء لا يقاس بشيء ولا يدانيه شيء قدمته تلك الأجيال المنهكة التي ولدت لتواكب انقلاب الإرادات على الإرادات وتخضع لمزاج المنتصرين فيها فترتدي تارة لامة الحرب مكرهة أو ترتديها مغلفة بالخديعة.. وترتدي تارة أخرى لباس الجوع والفقر والحصار والمرض والحرب الطائفية.. لتشهد أجيال النصف قرن كل ما عرفته قواميس الأذى، فلم تغادر صغيرة ولا كبيرة فيها إلا ذاقتها دون أن يمنحها الوطن -المضحى لأجله- شبرا من الأرض ولا رخاء ولا أمن ولا احترام ولا عرفان ولا شيء من أي شيء دون مقابل فيُشعرك الحاكم أن الوطن كجهنم التي أُعدت للكافرين كلما سُئلت عن امتلائها أجابت: هل من مزيد..
شعور سيء للغاية أن ترى وقوف أبناء هذه الأجيال على شفا حفرة الهجرة طلبا للغربة وهروبا من شفا حفرة الوطن الذي لا يُقابل العطاء بالعطاء..
شعور سيء أن تتوسد كل ليلة هموم الفاقة والمرض وهموم سداد مابذمتك من ديون لوطنك الذي تقترض من مصارفه الحكومية ما يقيدك لأعوام بربا الأموال التي يستهجنها حتى عتاة الكفار في أزمان الجاهلية المنقرضة..
إحساس بالكآبة المفرطة وتأزم نفسي لا طاقة لأحد به أن لا يكون لك بضعة أمتار مربعة من الأرض تجمعك وعيالك تحت سقف الأمان دون أن يطرق بابك مالك الدار يطالبك بأجرة ثلاثين ليلة مرت عليك مثقلة بالكوابيس التي تتخللها بعض الآمال بأن يلتفت إليك أحد من هؤلاء النبلاء الجدد أصحاب التاريخ الجهادي والنضالي.. ولا أحد..
شعور يشبه الغثيان أن ترى غزو الخصخصة والاستثمار واستعباد البشر بالأرقام والرموز والبطاقات الذكية مع قتل صريح للقطاع الحكومي التماسا لرضا المنتفع (ابو الجزمه) وضحكا على ذقن (الجادود أبو كلاش)..
حتى علة الجسم لم تعد لتبرأ في مستشفيات الاختناق والأوساخ والحرائق التي لم يؤدي فيها الدور المطلوب سوى طبها العدلي وهو منجزها الوحيد الذي لا غبار عليه فهو يصدر الجثث بانسيابية عالية..
كعكة صار وطنك يا هذا، لكنك لا تمتلك حق الاقتراب منها، فالمصفحات تحيط بقصر الإمارة ومن يقترب يلقى به عطشانا من أعلى السطح بتهمة الإنقلاب.. فلا تقترب من كعكتهم وانتظر تلك القطرات من العطاء يتصدق بها عليك من أصاب قلبه خلل فني فخرج عن مألوف الطغيان في ساعة تطلق عليها جداتنا ( ساعة رحمن) والحقيقة يا جداتنا الطيبات أنها ( ساعة سوداء) تلك التي جائت بكل هذه الحكومات التي حكمت قرابة القرن من الزمان فمنحت حياة هذه الأجيال المبتلاة كل الألوان الكالحة..
حتى أولئك الذين جاءوا من البلدان التي آوتهم -وكنا نظن بهم خيرا- لم يحملوا منها ما يميزها من عمران أو خطط لحياة كريمة.. الشك ينتابنا أنهم كانوا في سراديب تحت الأرض هناك وإلا ما سر عجزهم عن نقل مشاهداتهم في لندن وباريس وغيرها وجعلها نماذج لمشاريع يقدمونها لأخوتهم الذين طال بهم الانتظار!.. تلك إذن (ساعة سوداء)..
مما يؤسف له -والشواهد أكثر من أن تحصى- أن هذا الشعب -باستثناء المتزلفين لمقام القيادة القومية والقطرية والحكام الجدد المنتفعين من زوال الدولة البعثية- قد أعطى دون مقابل فتلاقفته المنايا مضحيا قد رجحت في ميزان العطاء كفته على كفة الحكومات المتعاقبة التي لم تفقه لغاية اليوم منهج الحكم الحقيقي الذي لم يكن له إلا الأشتر بجلالة القدر والمنزلة..
فكلكم راع.. وتلك منزلة المسؤول وهي بحاجة إلى تأمل يطول أمده ويستغرق في شأنه قبل إعلان القبول به.. لكن ما حدث أن الفهم قد انحرف عن مساره فإذا بقيام دولة الرِّعاءِ لا دولة الرعاة..
الشعب أجلُ منزلة من دولتكم.. وأعلى شأنا من حكوماتكم التي حنثت اليمين وتصدرت مشهد استثمار السلطة واستغلالها.. لذلك سنبقى ننظر إلى كل من تصدى للحكم -ممن جاء بالانقلابات أو جاء بالديمقراطية- وهو يظن أن الوطن مغنما له ولمن جاء به، على أنه (راع من الرِّعاءِ لا من الرعاة).. وسيبقى تقييمنا لكل من يؤمن بالمحاصصة أنه خائن.. وستبقى نظرة ازدرائنا لحكومات المنافع قائمة.. فنحن أجيال الحرمان التي لم يُكتب لها أن تلمس في بلدها الخير أو أن تشعر بشيء من الاهتمام ببركات وجود العتاة والطغاة ! .. قضينا ما يكفي في معسكرات التجنيد الإلزامي والحرب والمطاردة والصمت والحصار ومشاهد الدم ورائحة البارود ودوي الانفجارات وتقلبات الأحوال وتغير أشكال العملات والأموال واعتياد مشاهد الموت والجنائز والتبسم بوجه المقابر.. سلبت منا إرادتنا وقضينا ما يكفي من الهم والغم دون أن نرى شيئا ولا أمل يلوح في ما تبقى من أعمارنا.. الشيء الوحيد الذي نرجوه هو أن يكون للمشهد وجه آخر لينعم الأبناء بوطن لا يحكمه الأراذل.
..................
https://telegram.me/buratha