نعمه العبادي ||
قدم وزير المالية علي حيدر عبد الامير علاوي استقالته/ إعفائه من الحكومة الحالية يوم الثلاثاء الموافق 16 آب 202 2
وتمت الموافقة عليها (سريعا) بعد جلسة خاصة بينه وبين رئيس الوزراء ثم جلسة عامة لمجلس الوزراء، وقد جاءت الاستقالة في ظروف سياسية معقدة جدا، كما انها سبقت الجلسة التي دعى لها رئيس الوزراء في القصر الحكومي لقادة القوى السياسية، ومع ان الاستقالة جاءت من حيث التوقيت والشكل والشخصية مثيرة ومحفزة لعشرات التساؤلات إلا انها لم تأخذ حقها من النقاش والتحليل والاهتمام، وقد غطت الاحداث الجارية عليها، رغم انها في قلب تلك الاحداث.
على غير المعهود كتب علاوي استقالة مطولة تكونت من (10) صفحات، ونشرت في وسائل الاعلام، ونظرا لطبيعة الظروف التي زامنتها، وطول النص، وطبيعة وطريقة معظم النخب في فهمهما لما يكتب وينشر، أجزم ان المعظم لم يقرأها، او انه اطلع عليها بشكل عابر، او اخذ منها بعض المقتطفات، او قرأها من خلاصات اسقاطاته الشخصية على كاتبها، ويدل على ذلك غياب الاهتمام بالنص.
علي علاوي احد الشخصيات التي رافقت تشكيل التجربة السياسية العراقية الجديدة من بداياتها، وقد خدم في اكثر من وزارة، وهو شخص تلقى تعليما جيدا خارج العراق في جامعة هارفارد واكسفورد، وقد كتب احد اهم الكتب التي قيمت التجربة العراقية " احتلال العراق.. ربح الحرب وخسارة السلام"، ويكتب على الطريقة الغربية، وأجد في نصوصه (بغض النظر عن التوافق من عدمه معها) مادة معرفية وافكارا ثرية، واحيانا اسرارا مهمة و خطيرة.
عشرة صفحات لم يكتبها محلل في مركز دراسات او اعلامي او باحث اكاديمي، وانما كتبها وزير عمل في اكثر من وزارة، وشخص مطلع على الوقائع والحيثيات بشكل ربما لا يؤتى لاحد غيره الوصول لها، لذا فإن هذه الصفحات تقدم تقييما مهما وحساسا لواقع الدولة ومستقبلها، وتلمس الاماكن الحساسة منها، فهو امر يستحق الكثير من الاعتناء بغض النظر عن كونه كان وزيرا ناجحا او فاشلا، فانا هنا مهتم بنصه كخبير محترف، وكمطلع مقرب.
يقييم علاوي واقع الدولة بسطور مقتضبة فيقول: " كل دعوات الاصلاح جرى اعاقتها بسبب الاطار السياسي لهذا البلد. ولقد تم تحريف النظام البرلماني الذي تم تقديمه في عام ٢٠٠٥ من اجل خدمة مجموعات المصالح الخاصة وتقويض الدولة ومؤسساتها. ولقد سمح بالاستيلاء على الدولة من قبل مجموعات المصالح الضيقة. و لاشك ان اصلاح هذا النظام بتغييرات دستورية او دستور جديد امر ضروري. وعلى عكس البشر، لا تموت الدول بشكل نهائي. ويمكن ان تبقى دول (الزومبي) لسنوات بل حتى لعقود قبل ان يتم دفنهم. اعتقد ان الدولة العراقية التي ولدت بعد غزو ٢٠٠٣ تظهر عليها علامات مرض عضال. وصحيح ان آلية الحكومة مستمرة، وتبقى مظاهر سلطة الدولة قائمة، لكن لا يوجد جوهر للشكل. إذ تواجه السلطات المركزية للدولة تحديات على جميع المستويات. حيث لا تسيطر الدولة على حدودها، وتنتهك سيادة اراضيها باستمرار، ويستخدم الارهابيون الذين يستهدفون جيراننا اراضينا كملاذ، وقواتنا الامنية منقسمة مؤسسيا وبرلماننا معطل حاليا. دستورنا في الغالب غير عملي ويتم اهماله بانتظام ونظامنا السياسي يولد الجمود والانسداد. الحساب والعقاب لا يشمل الزعامات الكبيرة ويتم استغلال موارد الدولة بشكل غير فعال ومهدر او يساء استخدامها او تتم سرقتها، ولا احد يحاسب على الكوارث التي حلت بهذا البلد والقوى الاجنبية تؤثر بشكل مباشر على المؤسسات الحيوية وهي تقف وراء تعيين شخصيات رئيسة في الحكومة، والنتيجة هي البلد الممزق الذي نرى انفسنا فيه".
وعن مدى سوء الاوضاع المزرية التي وصل لها جسد الدولة خلال المدة المنصرمة يشير في جانب من استقالته :" تعرفت على الحقيقة المروعة بشان مدى تدهور آلية الحكومة في السنوات الخمس عشر الماضية. فقد تم الاستيلاء على مفاصل واسعة من الدولة فعليا من قبل الاحزاب السياسية وجماعات المصالح الخاصة. وكانت الوزارة (اي المالية) نفسها بلا دفة لاكثر من عقد. وكان احد وزرائها قد اقيل بسبب مزاعم عن إيوائه إرهابيين. بعد ذلك، كانت الوزارة تدار من قبل وزراء بالوكالة مكلفين من وزارات اخرى. كان لديهم القليل من الفهم للشؤون المالية، وبالتالي لم يتمكنوا من توفير اطار السياسة المالية للبلد"، واستطرد بالقول:" لقد كانت وزارة المالية التي كنت أترأسها شبحا بالمقارنة لما كانت عليه في السابق. وشغل المدراء مناصبهم الرئيسة لفترات قصيرة فقط، ووقع العديد منهم تحت تأثير الاحزاب السياسية. ولم يكن جميع المديرين العامين مناسبين او مؤهلين للوظائف التي كانوا مسؤولين عنها. ولقد تم تقليص عدد كبار الموظفين الذين كنت على دراية بهم في عام ٢٠٠٦ بشكل كبير، من خلال حالات التقاعد والطرد والاستقالات وحتى القتل. وانخفضت المعايير إلى مستوى متدني للغاية.
وكانت وزارة المالية مليئة بالاشخاص ذوي المؤهلات المشكوك فيها، وليس لديهم خبرات ذات مغزى او مهارات، مع القليل من الفهم للممارسات الحديثة في الادارة العامة او الادارة المالية. وقام غير الاكفاء والمتصلين بالسياسية بإزاحة الاداريين المهرة والفعالين".
ان هذا التقييم الذي شرح واقع وزارة المالية، وهي الوزارة الفنية الحساسة التي من المفترض ان تكون احسن حالا من كل الوزارات، ينطبق وبشكل اكبر واكثر ترويعا على الوزارات والمؤسسات الاخرى.
تعرض علاوي لانجازات الحكومة الحالية ( وبغض النظر عن اي موقف منها)، فقد ذكر بوضوح وشجاعة في الفقرة الاخيرة من هذا السياق: " لكن الحكومة لم تنجح في ضبط الفساد ثم الحد منه. الفساد وحش متعدد الرؤوس وقد حفر في السنوات العشرين الماضية جذورا عميقة في البلاد. لا يمكن السيطرة عليه فضلا عن اقتلاع جذوره اذا لم تكن هناك ارادة سياسية واجماع على القيام بذلك، إذ لا يزال الفساد مستشريا ومنهكا وواسع الانتشار"، وفي موضع آخر يذكر حقيقة مفزعة:" كل شيء تقريبا يتآمر لاحباط التغيير الحقيقي وترسيخ استمرار الممارسات الفاسدة التي تدمر الاسس الاخلاقية المادية للبلد".
قدم علاوي بوصفه مطلعا على حقيقة ما يجري في البلد من فساد مخيف اشارات كثيرة ومن ابرزها قضية الدفع الالكتروني : " كانت قضايا فساد الدفع الالكتروني بالنسبة لي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. لم تكن حالة نادرة ولكنها عكست بوضوح لجميع الاطراف مدى الخلل بالمنظومة، فقد بلورت الدرجة التي تدهورت عندها مكانة الدولة واصبحت ألعوبة للمصالح الخاصة. الامر الآن مع السلطة القضائية وتحقيقاتها بعد ابداء الوزارة ملاحظاتها، لذا لا يمكنني التعليق عليه، لكنه يثير مجموعة كاملة من الاسئلة بشان كيفية اتخاذ القرارات الصحيحة التي تؤثر على ملايين الاشخاص ومؤسسات الدولة الحيوية دون اعتبار للمصلحة العامة. اذ تعمل شبكات سرية واسعة من كبار المسؤولين ورجال الاعمال والسياسيين وموظفين الدولة الفاسدين في ظل السيطرة على قطاعات كاملة من الاقتصاد، وتسحب مليارات الدولارات من الخزينة العامة. هذه الشبكات محمية من قبل الاحزاب السياسية الكبرى والحصانة البرلمانية وتسليح القانون وحتى القوى الاجنبية، وانها تحافظ على صمت المسؤولين الامناء بسبب الخوف والتهديد بالقوة. لقد وصل هذا الاخطبوط الهائل من الفساد والخداع الى كل قطاعات اقتصاد الدولة ومؤسساتها ويجب تفكيكه باي ثمن اذا مقدرا لهذا البلد ان يبقى على قيد الحياة".
ان هذه الوثيقة بمثابة شهادة علنية من شخص مسؤول مطلع بشكل قريب ودقيق جدا تلزم الادعاء العام والجهات القضائية وكافة الفعاليات الاجتماعية والسياسية التحقيق فيها، وتحري ما تضمنته من اخبارات خطيرة وإن كان معظمها متداول في الفضاء العام، كما، انها تضع كل القوى السياسية بدون استثناء الذين ساهموا في ادارة الدولة خلال العقدين المنصرمين امام مسؤولية الاجابة عن كل ما تمت الاشارة إليه، وفي اقل التقادير فعل ما يمكن فعله من التكفير عن الذنوب والفجائع لتستمر حياة هذه الدولة.
ان هذا المقال يتفق تماما مع ما ختمت به استقالة علاوي، فنحن بحاجة إلى:
- قيادة من اعلى مستويات الجودة، تؤثر على نفسها ومصالحها الانية الذاتية.
- سلوك اخلاقي في اعلى مناصب في البلد لتصبح بوصلة اخلاقية للمجتمع والادارات الحكومية.
- مؤسسات ذات فعالية وعمق ونزاهة.
- الاستقرار والتماسك والاستمرارية في ترتيباتنا السياسية.