كندي الزهيري||
إن «الثقافة» هي روح جميع العلاقات. وما يتشكل على أساسها جميع شؤون الحياة الفردية والجماعية للإنسان، ان «الأدب » و «الاخلاق» و «الثقافة » أو أي إسم آخر قادر على استيعاب هذا المفهوم، هو بمثابة كل شامل يضفي معنى على «وجود» الإنسان و «عیشه» و «موته». وبالتحديد ما يتعلق بفكر خاصي ومعرفة خاصة، وتعريف معين عن العالم والإنسان والذي قدمه نبي أو حكيم أو مفكر إلى بني آدم. بعبارة أخـرى فـان «الثقافة» هي جميع (الأدب والاخلاق) التي تحدد علاقة الانسان بنفسه وبالطبيعة و منشأ الكون، على إمتداد رقعة تحتضن جميع المناسبات والعلاقات الفردية والجماعية. ان ما يوضح في هذا المسار، الهوية والشخصية والمواصفات الثقافية، هو نوعية الرؤية والفكر الخاص الذي يرسى عليه منطلق الإنسان ووجهته. ولـدى طـرح هـذا الموضوع والمعـاني والتعاريف المختلفة التي قدمها علـم الإجتماع الغربي (من منظور الفلسفة الإنسانية)، تم تجاهل الفكر و المبادئ النظرية. وقد قدم أدباء وعظماء تعريفا للأدب والثقافة استنادا إلى «الانطباع المعنوي» عن الكون، وذلك منذ الأزمان البعيدة وحتى الزمن الذي لم يفقدوا فيه لفظ ومعنى(تعايشهم السلمي) ، واعتبروا غير ذلك جزءا من العلم السفلي وذي المرتبة
الـدنيـا الـذي يـهـتم بـالحواس الظاهرة والوجـه الحيـواني لحياة الإنسان، لذلك فان «الثقافة» في هكذا أعمال كانت تنطوي على شحنة «معنوية» ذات مفهوم إيجابي ولم يكن هؤلاء العظماء يقحمون الأعمال والحركات الناتجة عن النفس الأمارة. للإنسان في مضمار «الأدب» و «الثقافة» بحيث أن (ابن سينا) قسم في كتابه (موسوعة علاني) العلم النظري إلى ثلاث مراتب ، يقول : أما العلم النظري فهو ثلاثة: وأحد يعرف بالعلم العلوي والعلم السفلي وهو الطبيعة والآخر العلم الوسطي وعلم الثقافة والرياضة الروحية ... وآخر يدعى علم الطبيعي والعلم السفلي. ويقول صاحب «تاریخ بیهق» في هذا الخصوص ولكل ولاية علم خاص. فللروم علم الطب ، وللهند التنجيم والحساب، والفرس علم آداب النفس والثقافة، وهذا هو علم الأخلاق. و يبين «خواجـة نصيرالدين الطوسي» في كتابه «اخلاق ناصري» هذا الموضوع. و يكتـب فـي بـاب تنشئة الابناء «... و من تديره النفساني، الكمالات النفسانية مثل الآداب والثقافة والفن». وقد أولى عظماء الكلام المنظـوم بـدء من فردوسي وانتهاء ب( مولوي وسعدي) ، اهتماما دائما بهذا الوجه من معنى الثقافة. وللفردوسي أبيات عديدة بهذا المضمون: إن الثقافة هي زخرف وزينة الروح والجوهر يسهل الكلام والحديث ، وفي موقع آخر يقول:
اختر عدم الإيذاء والفائدة فهذا هو الثقافة والدين . ويقول جلال الدين محمد مولوي: یا صاحب المعرفة الأصيلة، أوجد ثقافة جديدة واوجد حلا جديدا فانت صاحب بصيرة حقا . و يستشف من جميع هذه الأبيات بأن عظماء واكابر أهل المعرفة، اعتبروا «الثقافة» بمنزلة الأخلاق والسلوك الذي يصلح النفس ويبعدها عن السوء، لتتأدب بأدب الدين، وتدفع بصاحبها نحو الكمالات المعنوية وفي هذا الخصوص، أعتبر الجميع أن مكان الثقافة هو «قلب» أصحاب الفراسة ممن بقوا بمنأى عن السوء والدناءة ونالوا بسببه أصل الحكمة و المعرفة. و يقول «قطران تبريزي»: من القلب، تزيل صدأ مرأة الثقافة أرشد من منطلق العلم والمعرفة، كل إنسان إلى طريق الثقافة. ولكن اليوم وتباعا لغلبة الانبهار بالغرب والعلوم الغربية، يطلق عنوان «الثقافة» و «الثقافي» على مجمل التعامل والأعمال التي تتعاطى مع هواجس الإنسان، وتقدم بمدد الأدوات والتقنيات الظريفة. وفي هذا الخضم لا يتم الإهتمام بالمعنوية والمعرفة الدينية والأخلاقية، بنفس الإهتمام الذي كان يوليه المتقدمون لها. إن «الثقافة» بوصفها الأخلاق والأدب تنبع من كلام أهل المعرفة وتلقي في مسارها المتدرج بظلالها على جميع الشؤون الإنسانية. لذلك فان ما يضفي معنى على الأدب والأعمال الأدبية، لقوم ما ، ويميزهم عن غيرهم، هو الفكر والرؤية التي تظهر نفسها كسند ل«الثقافة» ، وبذلك فان الثقافة تضفي لونها وصبغتها على جميع اوجه، وقوالب حياة أمة ما. كالضياء الذي يسطع من وراء زجاج ملون ويعكس صورا مختلفة وملونة، إنعكاس لضياء واحـد بمظاهر ملونة. وفي الحقيقة فإن أهل الفكر، ينظرون من اعالي عالم الملك إلى العالم الدنيا وهذا الإنفصال عن رقعة
الأرض، يتيح لهم إمكانية إيجاد نسبة مع مصدر الكون, لأنه ليس بمقدور الجميع ، الإنفصال عن الذات و لذلك ليس للكل نصيب في إمكانية درك و فهم مكانة الإنسان في الدنيا، و من دون اكتساب المعرفة حول مكانة الإنسان وساحته كما هي، و من دون معرفة درجة نزوله من تلك الساحة إلى الساحة التي سكن فيها، فانه من غير الممكن رسم مشروع جلي عن وضع هذا الإنسان على إمتداد الأرض في العصور المختلفة، وإن هذه المهمة كانت دائما ملقاة على عاتق «اولي الألباب» الذين كانوا على الدوام يوضحون وينيرون هذه الخطوط والتيارات.
بحيث أن بقاء وديمومة أي أمة يتوقف تماما على وجود هؤلاء...
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha