د. علي المؤمن ||
تتجلى دكتاتورية الصوت العالي في كثير من المجالات الحياتية: الإجتماعية والثقافية والدينية والسياسية، ويمارسها من يمتلك أدوات تعبيرٍ أكثر فاعلية وضجيجاً ومواصلة، ويعمل عبرها على مصادرة أصوات الآخرين، وإن كانوا أكثر عدداً ووزناً، والهيمنة على قرار الجماعة، وإن كانت أغلبيتها ترفضه.
يتميز صاحب الصوت العالي عن الآخرين من خصومه وأصدقائه، بأنه يوظف ذكاءه ودهاءه لتجيير العقل الجمعي لصالحه، ولمهاجمة الآخرين، وأنه يتقن المنطق الشعبوي، ويسوغ لنفسه ممارسات ضد خصومه وأصدقائه، بهدف إضعافهم وإخافتهم وابتزازهم، في وقت لا يفكر الآخرون بهذه الممارسات أو لايستسيغونها.
خطورة صاحب الصوت العالي تكمن في قدرته على تحويل الوهم الى حقائق في العقل الجمعي، وهو أسلوب فاعل وسريع في غسل أدمغة الجماعة، فتنقسم الجماعة المنفعلة المتأثرة بخطابه الى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المؤيدون والأنصار، سواء المقتنعون به أو الإنتهازيون الذي يختبئون تحت مظلته لأسباب مختلفة.
القسم الثاني: المترددون المحتارون بين الإنبهار بصوته العالي وتأثيره، وبين سلوكه الذي ترفضه الأغلبية. هذه الإزدواجية تصب أحياناً في مصلحة صاحب الصوت العالي؛ لأنها تتحول لدى بعض هؤلاء المترددين الى ميول لمصلحته خلال وقائع وأحداث معينة، لا سيما إذا كان خصومه لايحسنون استقطاب المترددين. ويُطلق على المترددين ـ عادةً ـ أصحاب المنطق الرمادي.
القسم الثالث: الرافضون المستسلمون، الذين يعتبرون صاحب الصوت العالي قدراً مفروضاً يفوق قدراتهم على المواجهة، وإن كانوا أكثر عدداً وعدّة منه. ولذلك يعملون على اتقاء مخرجات دكتاتوريته، تحت عنوان المصلحة العليا للجماعة.
على المستوى السياسي، فإنّ صاحب الصوت العالي، هو الذي يمتلك وسائل تواصل وإعلام، ومتحدثين مكثرين، وأموال، ومجموعات ناشطة على الأرض، وعناصر نافذة في مفاصل السلطة. وعبر هذه الماكنة الفاعلة المنظّمة يوهم العالم بأنه يمثل الشعب حصراً، وأنه صوت الجماهير ونبض الشارع وضمير الأمة، وأن ما يقوله هو التعبير الوحيد عن رغبات الناس وإرادتهم وتوجهاتهم، وأنه هو الوطن والوطن هو. أما الذين يخالفونه فهم أعداء الشعب والوطن؛ بل هم مجرد أصفار أمام جبروته الشعبية وسموه الوطني.
لكن صاحب الصوت العالي هذا يمارس ـ في الواقع ـ أبشع أنواع الدجل والتزييف والدكتاتورية؛ لأنه يصادر أصوات الأغلبية الساحقة من الشعب، وينصِّب نفسه قيِّماً على الناس، ويعمل على سرقة قرار الجماهير والوطن، وهو في الحقيقة لايمتلك من الشارع إلّا جزءاً مما يمتلكه الأخرون، بل عادة ما يكون مرفوضاً من الأغلبية الشعبية الصامتة.
يزداد وجود دكتاتوريات الصوت العالي في أجواء الديمقراطيات المنفلتة، التي تكون فيها سلطات الدولة ضعيفة وتعاني من مسارب الفساد والفشل والشلل، وتكون الطبقة السياسية فيها تعاني من نقاط ضعف ذاتية وموضوعية، في مقدمتها التورط بممارسات الفساد، ما يضطرّها الى الصمت حيال صاحب الصوت العالي وسلوكه، وإن كان فساده أكبر منهم مجتمعين، لأن صوته العالي يغطي على فساده ودكتاتوريته، بينما صوتهم المنخفض المبحوح يجعلهم في فوهة مدفع الشعب.