منهل عبد الأمير المرشدي ||
اصبع على الجرح.
كان الفتى عدنان طالبا في مرحلة الدكتوراة يعّد رسالته في علم النحو باللغة العربية وكان مواظبا في البحث والدراسة ويمتاز بالعبقرية والذكاء إلا إنه إنقطع عن الدوام بشكل مفاجئ واستمر غيابه لعدة أيام مما شغل بال استاذه الجامعي فقرر أن يذهب إلى بيته ليزوره ويطمئن عليه . وصل الأستاذ إلى بيت تلميذه فصدمه المشهد البائس للبيت الذي هو عبارة عن غرفة واحدة متصدعة وأن الطالب فقير جداً بشكل لم يكن يتصوره .
سأل الأستاذ تلميذه عن دواعي عدم حضوره إلى الجامعة فقال له الطالب عدنان العلمُ لا يشتري باقة فجل ! دُهش الأستاذ من كلامه وقبل أن يسأله عن سبب قوله هذا سارع عدنان ليسرد شيء من معاناته وقال : يا أستاذي العزيز لقد شعرنا بالجوع منذ أسبوع ولم يكن معنا إلا دينارً ونصف فاشتريتُ الخبز لنا بدينار من الفرن وتوجهتُ إلى بائع الخضار لأشتري منه فجلاً بنصف الدينار المتبقي . لقد رفض أن يبيعني ولا حتى باقة واحدة وقال لي إن باقة الفجل بدينار.
كنت محرجا ايها الأستاذ الفاضل لأننا نحتاج الفجل غموسا لنا مع الخبز ووجدت نفسي في حيرة من أمري فقلتُ له: بامكاني أن أُعلمكَ مسألةً في النحو أو أروي لكَ قصةً في الأدب العربي مقابل أن تبيعني باقة الفجل بنصف دينار إلا انه قال لي ساخراً: إغرب عن وجهي فعلمكَ لا يساوي باقة فجل واحدة . علمتُ أنه على حق وقررتُ أن أترك الدراسة وأبحث عن عمل يمكنني من تدبير امور حياتي وشراء الخبز والفجل! لم يُعلق الأستاذ على كلام تلميذه وإنما خلع خاتماً ذهبيا من اصبعه واعطاه له وأخبره ان هذا الخاتم غالي الثمن وعليه ان يبعه ليتصرف بالمال الذي سيحصل عليه حتى يستطيع اكمال دراسته وقال له اني سأنتظرك غداً في الجامعة .
في اليوم التالي جاء الطالب عدنان ومعه ثمن الخاتم بآلاف الدنانير فقال له الأستاذ: ما شاء الله هذا سعر ممتاز أين بعتَ الخاتم ؟ فقال له: لقد بعته في سوق الصاغة . فقال له الأستاذ: ولِمَ لمْ تبعه لبائع الفجل ؟ فكان جواب الطالب سريعا وبديهيا : بائع الفجل لا يعرف قيمة الذهب ! فقال له الأستاذ: أحسنت يا عزيزي وكذلك هو لا يعرف قيمة العِلم فالمشكلة ليس إنَّ علمكَ من دون قيمة وإنما قد بذلته لمن لا يُقدِّره .
فصة جميلة ويقال انها حصلت بالفعل في خمسينات القرن الماضي في بغداد وقصة التلميذ وبائع الفجل تتكرر كثيراً في حياتنا اليوم وعلى سبيل المثال لا الحصر حين يكون أمر اصحاب الكفاءات والعقول النابغة والشهادات العليا مرهونا عند من كان بالأمس بائع للفجل فلا نستغرب أن يتعرضوا للذل والإهانة والإستهانة ،
حين تكون مظلومية الفقراء وذوي الضحايا والمتقاعدين ذوي الرواتب الهزيلة مرهونة بين يدي متخما لا يرى ما حوله من شدة الإفراط في التخمة فلا ننتظر انصافا ولا عدلا ولا حق .
حتى في المشاعر الوجدانية والإنسانية فأحياناً كثيرة لا نلقى صدى طيبا لما نفعله من خير عند البعض فذلك ليس لأن الذي نفعله لا قيمة له بل لأننا نفعله مع من لا يُقدِّره .
حتى في مشاعر الحب الذي تقدمه لشخص ما َولم تجنِ إلا الشوك والآهات والألم فهذا لا يعني أن الحُب ليس له قيمة وإنما يعني أنك قدمته إلى الشخص الخطأ! وإذا صنعتَ معروفاً مع إنسانٍ وقابله بالإساءة فهذا لا يعني أن المعروف لا يُثمر في الناس وإنما يعني أن بعض الناس فقط ليسوا أهلاً للمعروف .
اخيرا وليس آخرا نقول للدلالة في المعنى نقف باجلال واكبار لبائع الفجل الشريف اما فعل الخير فنستذكر كلام الإمام جعفر الاصادق الذي يقول افعل الخير حتى وان لم يكن في غير أهله فإن لم يكن اهلا له فأنت اهلا له .
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha