الشيخ محمد الربيعي ||
لعل أهم ما يميز شهر رمضان عن بقية العام هو الصيام الذي يعني الامتناع عن تناول الطعام والشراب وممارسة الشهوات خلال النهار ، بالإضافة الي الجو الروحاني الخاص الذي يميز هذا الشهر من المشاركة العامة بين الأفراد في تنظيم أوقاتهم خلال اليوم بين العبادة والعمل في فترات محددة وتخصيص أوقات موحدة يجتمعون فيها للإفطار ، وهذه المشاركة في حد ذاتها لها أثر إيجابي من الناحية النفسية علي المرضي النفسيين الذين يعانون من العزلة ويشعرون أن إصابتهم بالاضطراب النفسي قد وضعت حاجزاً بينهم وبين المحيطين بهم في الأسرة والمجتمع ..
وشهر رمضان بما يتضمنه من نظام شامل يلقي بظلاله علي الجميع حين يصومون خلال النهار ، وتتميز سلوكياتهم عموماً بالالتزام بالعبادات، ومحاولات التقرب الي الله ، وتعم مظاهر التراحم بين الناس مما يبعث علي الهدوء النفسي والخروج من دائرة الهموم النفسية المعتادة التي تمثل معاناة للمرضي النفسيين فيسهم هذا التغيير الإيجابي في حدوث تحسن في حياتهم النفسية.
وللصوم آثار إيجابية في تقوية الإرادة التي تعتبر نقطة ضعف في كل مرضي النفس،كما أن الصوم هو تقرب الي الله يمنح أملاً في الثواب ويساعد علي التخلص من المشاعر السلبية المصاحبة للمرض النفسي ، كما أن الصبر الذي يتطلبه الامتناع عن تناول الطعام والشراب . والممارسات الأخرى خلال النهار يسهم في مضاعفة قدرة المريض علي الاحتمال مما يقوى مواجهته ومقاومته للأعراض المرضية ..ولهذه الأسباب فإننا في ممارسة الطب النفسي ننصح جميع المرضي بالصيام في رمضان ونلاحظ أن ذلك يؤدى الي تحسن .
يتضمن الصوم فائدة كبيرة لكل المرضى الذين يعانون من إضطرابات نفسية مختلفة .. فالاكتئاب النفسي هو مرض العصر الحالي ، وتبلغ نسبة الإصابة به 7% من سكان العالم حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية ، واهم اعراض الاكتئاب الشعور باليأس والعزلة وتراجع الإرادة والشعور بالذنب والتفكير في الانتحار ،
والصوم بما يمنحه للصائم من أتمل في ثواب الله يجدد الرجاء لديه في الخروج من دائرة اليأس ، كما أن المشاركة مع الآخرين في الصيام والعبادات والأعمال الصالحة خلال رمضان يتضمن نهاية العزلة التي يفرضها الاكتئاب علي المريض ، وممارسة العبادات مثل الانتظام في ذكر الله وانتظار الصلاة بعد الصلاة في هذا الشهر تتضمن التوبة وتقاوم مشاعر الآثم وتبعد الأذهان عن التفكير في إيذاء النفس بعد أن يشعر الشخص بقبول النفس والتفاؤل والأمل في مواجهة اعراض الاكتئاب .
أما القلق فإنه سمة من سمات عصرنا الحالي ، وتقدر حالات القلق المرضي بنسبة 30-40% في بعض المجتمعات ، والقلق ينشأ من الانشغال بهموم الحياة وتوقع الأسوأ والخوف علي المال والأبناء والصحة ، وشعور الاطمئنان المصاحب لصيام رمضان ، وذكر الله بصورة متزايدة خلال رمضان فيه أيضا راحة نفسية وطمأنينة تسهم في التخلص من مشاعر القلق والتوتر .
والوساوس القهرية يعاني منها عدد كبير من الناس علي عكس الانطباع بأنها حالات فردية نادرة ، فالنسبة التي تقدرها الإحصائيات لحالات الوسواس القهري تصل الي 3% مما يعني ملايين الحالات في المجتمع ، وتكون الوساوس في صورة تكرار بعض الأفعال بدافع الشك المرضي مثل وسواس النظافة الذي يتضمن تكرار الاغتسال للتخلص من وهم القذارة والتلوث ، وهناك الأفكار الوسواسية حول أمور دينية أو جنسية أو افكار سخيفة تتسلط علي المرضي ولا يكون بوسعهم التخلص منها ، ويسهم الصوم في تقوية ارادة هؤلاء المرضي ، واستبدال اهتمامهم بهذه الأوهام ليحل محلها الانشغال بالعبادات وممارسة طقوس الصيام والصلوات والذكر مما يعطي دفعة داخلية تساعد المريض علي التغلب علي تسلط الوساوس المرضية .
من وجهة نظر الطب النفسي فإننا ننظر الي الصوم وقدوم شهر رمضان علي انه فرصة جيدة وموسم هام يساعدنا في مواجهة الكثير من المشكلات النفسية ، والمثال علي ذلك حالة المدخنين الذين اعتادوا علي استهلاك السجائر بانتظام خلال الأيام العادية بمعدل زمني لا يزيد عن دقائق معدودة بين اشعال سيجارة بعد سيجارة حتى يتم الاحتفاظ بمستوى معين من مادة النيكوتين التي تم تصنيفها ضمن مواد الإدمان ..
أن قدوم شهر الصيام والاضطرار الي الامتناع عن التدخين علي مدى ساعات النهار هو فرصة للمدخنين الراغبين في الإقلاع لاتخاذ قرار التوقف نهائياً عن التدخين ، ونلاحظ بالفعل أن نسبة نجاح الإقلاع عن التدخين في شهر رمضان اكبر من النسبة المعتادة في الأوقات الأخرى والتي لا تزيد عن 20% بمعني أن كل 10 من المدخنين يبدأ ون في الإقلاع ينجح 2 فقط منهم ويعود 8 الي التدخين مرة اخرى.
وبالنسبة للإدمان - وهو احدى المشكلات المستعصية التي تواجه الأطباء النفسيين - فإن تحقيق نتيجة إيجابية في علاج هذه الحالات يمكن أن تزيد فرصته مع صيام رمضان ، فالصيام تقوية للإرادة المتدنية لدى المدمنين ، وقبولهم تحدى الامتناع عن الطعام والشراب خلال نهار رمضان يسهم في تقوية إرادتهم ومقاومتهم لإلحاح تعاطي مواد الإدمان المختلفة ، كما أن شهر رمضان يذكر الجميع بضرورة التوقف عن ممارسة الأعمال التي تتنافى مع روح الدين ويمنح فرصة للتوبة والرجوع الي الله ، وهي فرصة كبيرة للخروج من مأزق الإدمان لمن لديه الدافع الي ذلك ..
القاعدة الطبية المعروفة التي تؤكد أن الوقاية افضل وأجدى من العلاج تنطبق تماماً في حالة الأمراض النفسية ، فقد ثبت لنا من خلال الملاحظة والبحث في مجال الطب النفسي أن الأشخاص الذين يتمتعون بشخصية متزنة ولديهم وازع ديني قوى ، ويلتزمون بأداء العبادات وروح الدين في تعاملهم هم غالباً اقل اصابة بالاضطرابات النفسية ، وهم اكثر تحسناً واستجابة للعلاج عند الإصابة بأي مرض نفسي ،
والغريب في ذلك أن بعض هذه الدراسات تم اجراؤها في الغرب حيث ذكرت نتائج هذه الأبحاث أن الأيمان القوى بالله والانتظام في العبادات لدى بعض المرضي النفسيين كان عاملاً مساعداً علي سرعة شفائهم واستجابتهم للعلاج بصورة افضل من مرضي آخرين يعانون من حالات مشابهة ، والأغرب من ذلك أن دراسات أجريت لمقارنة نتائج العلاج في مرضي القلب والسرطان والأمراض المزمنة افادت نتائجها بأن التحسن في المرضي الملتزمين بتعاليم الدين الذين يتمتعون بإيمان قوى بالله كان ملحوظاً بنسبة تفوق غيرهم ، وقد ذكرت هذه الأبحاث أن شعور الطمأنينة النفسية المصاحب للإيمان بالله له علاقة بقوة جهاز المناعة الداخلي الذي يقوم بدور حاسم في مقاومة الأمراض .
فأمامنا جميعاً فرصة ذهبية لتحقيق مكاسب كثيرة في هذا الشهر الكريم .. فالصيام وذكر الله في نهار رمضان ، والتقرب الي الله بالعبادات في هذا الشهر من الأمور الإيجابية التي تنعكس علي الصحة النفسية للجميع .. والفرصة كبيرة أمام اخواننا ممن يعانون من الاضطرابات النفسية لتدعيم تحسن حالتهم ومساعدتهم في الخروج من المعاناة النفسية ..
كما أن الفرصة الذهبية هي من نصيب إخواننا الذين هم آسري لعادة التدخين التي تهدد صحتهم ويمكن أن تودي بحياتهم ، وللذين وقعوا في مأزق الإدمان علي المواد المخدرة .. كل هؤلاء يمكنهم في هذا الموسم بالذات الاستفادة من هذه الفرصة في شهر رمضان الذي استقبلناه ونعيش أيامه ولياليه في جو روحاني رائع .. ونتمنى أن يكون هذا الشهر مناسبة مباركة يتم فيها شروق أمل في نهاية المصاعب والمتاعب التي يعانى منها المسلمون في أنحاء العالم .. وأن يشهد رمضان في الانتصار والخير والسلام للإسلام والمسلمين و العراق وشعبه الامين .. أنه سميع مجيب
ـــــــ
https://telegram.me/buratha