المقالات

" الصبي "..!


عباس سرحان ||

 

بخطىً صغيرة متثاقلة يدور  بين سيارات الاشارة الضوئية، يحمل فوق رأسه الصغير وعاء  فيه قطع من الحلوى المنزلية "الكليجة" يدعو بنظرات متلاحقة السائقين لشراء شيء منها.

في المرة الأولى التي رأيته فيها، أثارني هُزاله وحزنٌ مُخبّى فضحته عيناه الغائرتان، حاولتُ دسَّ نقود في يده الصغيرة، ولم أشتر منه، فرفض باستياء قائلا: لستُ متسولا!.

بدا لحظتها مثل كهل أصرّت الدنيا على إذلاله كثيرا، لكنها لم تُفلح.

صرتُ أدورُ النظر بحثا عنه كلما مررت بذات التقاطع المروري، فأشتري منه دون حاجة مني لما يبيعه، وأسأل عنه صبية الاشارة الضوئية لدى غيبته.

هم ينادونه " أحمد كليجة" هازئين أحيانا، وأخرى لتمييزه عن غيره من زملاء الشارع ممن يحملون مثل اسمه.  لم يُكمل، أحمد، العاشرة بعد، ويسكن في منزل بحي عشوائي مكتظ، ويعيل أختين تصغرانه وأمه.

 أمه بعين واحدة وتجهد في صناعة نوع من الحلوى يسمى محليا "كليجة" توزعها على عبوات صغيرة يحملها أحمد ليبيعها في التقاطع المروري المزدحم.

لا يستسيغ مرتادو الطريق ما تصنعه أم أحمد، فهنا وهناك اصناف حديثة من الحلوى في المحال القريبة. لكن تلك وسيلتها الوحيدة للكسب.

بعد ساعات طويلة يمضيها متنقلا بين نوافذ السيارات يعود أحمد مساء، متخطيا أزقة معتمة متسخة توطنتها القطط والكلاب السائبة.

هو لا يخشى كلاب الأزقة لأنها ألفته بخلاف صبية أشقياء يسلبونه أحيانا  ما يجنيه من نقود مستغلين ضعف قواه وصغر سنّه.

عند ما يسلبونه لا تجد أسرته ما تأكله في اليوم التالي، فيتألم  لحال أختيه الجائعتين، ويشعر  بالغضب لأنه عجِزَ عن حماية ما جناه.

في حيز ليس ببعيد في ذاكرته يحاول أحمد طمس مشاهد لا يريد تذكّرها تحمل حكايات مؤلمة متكررة من العنف أبطالها أبواه، وتحديدا والده الذي أدمن ضرب أم أحمد.

بعض نوبات الضرب المبرح التي كانت تتعرض لها على يد زوجها ذي اليدين المرتجفتين والمزاج المتقلب، كان أحمد يعرف أسبابها، بينما يجهل أسباب نوبات مفاجئة أخرى  تحدث في ساعات مختلفة ليلا او نهارا.

في مرة استيقظ بعد منتصف الليل على صراخ والده الهستيري وهو يضرب كل شيء امامه، وأمه أيضا.

 حاول أحمد ان يقي والدته بعض اللكمات. لكنه تجنب والده وفزع لنجدة أختيه الصغيرتين مدفوعا بما رآه من  رعبهما مما يجري حولهما.

انزوا وأختاه في حجرة مجاورة لم تكن عصية على صراخ والدته قبل ان تهدأ فجأة.

صباحا لفّت إحدى عينيها بعصابة وحاولت أن تغطي ورما واضحا في نصف وجهها الأيمن.

استمر احمد يسترق النظر اليها بصمت، وهي منسدحة، متجنبا سؤالها متجاهلا جوابا قد يفاقم حزنه وقلقه. لكن أمه كانت تذوي أمامه وانطفأت عينها تماما بعد ايام .

بعد الحادثة عاش  صراعا نفسيا مريرا، بين رغبة في ترك المنزل والالتحاق بالمشردين من الصبية  ممن يفترشون الارصفة والاماكن المهجورة. وبين البقاء في منزل يضم أسرته. لكن هجرته الألفة والمحبة والهدوء؟.

توقفت ذاته أخيرا عن صراعها في أول خميس من شباط العام الماضي، حين اقتادت سيارة الشرطة، والده وأكياسا تحوي أجساما زجاجية صغيرة. تلك المرة الأخيرة التي رأى فيها والده.

وبدأ رحلته نحو الضياع.

 

ــــــــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك