د.أمل الأسدي ||
قال تعالی مخاطبا رسوله الكريم:((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))(١)
بدأت الآية بالأمر(قل) ثم النداء(اللهم) ثم عُبِّر بـاسم الفاعل" مالك الملك" واسم الفاعل هنا؛ أضفی صفة ثبات الملك للمالك، وساعد الجناس الاشتقاقي علی بيان ديمومة تعلق الملك بالمالك!
وحين أُريد للسياق التعبير عن استمرارية تحكم المالك بملكه وبحسب موقف الإنسان وعمله؛ عُبّر عن ذلك بالفعل المضارع ، والأفعال تدل علی الحركة بخلاف الأسماء!!
ونلاحظ تدويم صيغة الفعل المضارع، إذ جاء في الآية ثمانية أفعال مضارعة وهي(تؤتي،تشاء،تنزع، تشاء، تعز،تشاء، تذل،تشاء)'، مما جعل السياق العام مشحونا بالحركة والاستمرارية والتجدد.
ونلاحظ أيضا تكرار الفعل ( تشاء) أربع مرات، مما جعله مركز التحكم بالسياق، فكل الأفعال منوطة به، متعلقة بالمشيئة، فالإيتاء والنزع، والإعزاز والإذلال؛ وحدات فعلية مرتبطة بالوحدة الرئيسة المهيمنة علی السياق، ونعني بها مشيئة الله تعالی المتجسدة في الفعل" تشاء"
ولا ننسی أن الفاعل لكل الأفعال الوادرة؛ هو فاعل واحد، مستتر للدلالة علی عظمته، وللحث علی تعظيمه في الدعاء، والتأدب في الطلب، ولا أحد يستطيع تربية الإنسان وتعليمه علی الخلق الرفيع، والسلوك الحسن، والإيمان بالله والثقة به، لا أحد يستطيع ذلك علی أتم وجه غير الحبيب المصطفی محمد(صلی الله عليه وآله) الذي قال عنه الله تعالی في كتابه الكريم:((وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ))(٢)
لهذا كان الخطاب موجها الی المتلقي الأول، الرسول الكريم،ليكون التهذيب والتعليم عبر قناته حصرا، وهي القناة المتفردة في مكانتها وقربها من الله تعالی كما بيّن سبحانه ذلك في قوله:((فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ))(٣)
ثم جاء السياق بالمقابلة، تؤتي الملك من تشاء/ تنزع الملك ممن تشاء، ولاتخلو المقابلة من الوحدات الصوتية المتكررة التي تدل علی أن قضية إيتاء الملك ونزعه متعلقة بالمالك! ومن ثم انتقل إلی مقابلة أخری، مشابهة وهي تعز: من تشاء/ وتذل من تشاء
ثم انتقل السياق من الإنشاء( الطلب) الی الخبر
إذ ورد: " بيدك الخير" فقدم متعلق الخبر المحذوف
( بيد + ك) ولاحظ فخامة الكاف، فاليد هي يدكَ، هي يد الله تعالی!! وأخّر المبتدأ وهو(الخير)
ولم يرد السياق بـ: الخير بيدك، بل قدم متعلق الخبر(بيدك) للتركيز علی وسيلة العطاء وهي يد الله، وحصر الخير فيها، ثم استعمال مفردة "الخير"جاء معادلا لفعل الإيتاء والعزة!
وبعدها اُختتم السياق بـ إنك علی كل شيء قدير
ولاحظ معي قوة إنك(إن + ك) فهي قوية بالتوكيد وقوية بالكاف الفخمة، ثم قدم المتعلق"علی كل شيء"
لأنه يريد التركيز علی إحاطة المالك بملكه ومن بعد ذلك ذكر الخبر وهو" قدير"
وبما أن بعض الناس يحترمون من عنده المال ويترفعون علی الفقراء، ويتخذون المال معيارا اجتماعيا ويتعاملون علی أساسه، فإن الله تعالی بيّن أن الملك بيده وله، وأنه الحاكم المتحكم إلی الحد الذي جسده التقارب الصوتي المتحقق من الجناس(مالك الملك) فتناسب تقارب المفردتين مع تعلق الملك بالمالك!!
فعلام يفضل بعضهم المال وهو زائل؟
ولعله من المناسب هنا ذكر خطبة أبي طالب لخديجة(عليهما السلام) إلی رسول الله (صلی الله عليه وآله) إذ قال: (الحمدُ للهِ الذي جعلنا مِن زَرْعِ إبراهيمَ وذريةِ إسماعيل وجعل لنا بلدًا حرامًا وبيتًا محجوجًا وجعلنا الحكامَ على الناسِ ثم إِنَّ محمدَ بنَ عبدِ اللهِ ابنَ أخي مَن لا يُوَازَنُ به فتًى مِن قريشٍ إِلا رَجَحَ عليه برًّا وفضلاً وكرمًا وعقلاً ومجدًا ونبلاً، وإنْ كان في المالِ قُلٌّ فإنما المالُ ظِلٌّ زائلٌ وعاريةٌ مُسْتَرْجَعَةٌ، وله في خديجةَ بنتِ خويلدٍ رغبةٌ ولها فيه مِثْلُ ذلك وما أحببتم مِن الصَّداقِ فعليّ)(٤) فما أعمق تعبيره عن المال حين قال: "فإن المال ظل زائل" إنه ظل وهمي، لايحمي صاحبه؛ لأن صاحبه يملكه مجازا وهو مستخلَف عليه!
وقوله: " عارية مسترجعة" أي من الإعارة، الشيء الذي تهبه إلی شخص ما ثم يعيده إليك، أي أن المال معارٌ من الله تعالی للبشر، وإلا فالمالك الحقيقي هو الله تعالی.
ومن بعد مقابلة إيتاء الملك ونزعه، جاءت مقابلة العزة والذلة، فلن يمنح المالُ العزة إذا سلبها الله من عبده العاصي، ولن تمنع الأموال والمصالح الذل عن الإنسان إذا وقع في دائرة السخط الإلهي!!
ومن ذلك أيضا، لن يستطيع أحدٌ إخفاء مكانة شخص ما، فهناك من يدفعه الحسد والحقد إلی التدليس والتضليل حول سيرة أخيه المسلم أو المؤمن أو لنقل أخيه الإنسان!!
فإذا أراد الله العزة لإنسان ما؛ فلن يتمكن أحدٌ من نزعها أو تغييبها، وإذا أراد الذل لعبدٍ عاصٍ، فلن ينجيه أحد، ولن تشفع له الأموال!
والشواهد علی ذلك كثيرة من العصور القديمة حتی عصرنا هذا، فمن النمرود وفرعون وقارون إلی أبي سفيان وهند وأبي لهب وأم جميل ومعاوية ويزيد ومروان والحجاج... إلی طاغية العصر الحديث صدام!
فهذه قوانين إلهية، سارية المفعول، متحققة مرة بعد مرة.. لهذا قال تعالی: (تؤتي، تنزع، تُعِز ، تُذِل) فالأفعال مضارعة، أثبتت تجدد الفعل وتكراره في الحال. والاستقبال...والله أعلم
إذن؛ فإن المعايير السائدة تتماهی مع حب الدنيا، وتبتعد عن المعايير القرآنية، فالدنيا لعب ولهو وتفاخر بالأموال والأولاد، بينما المعايير المترتبة علی الآية، معايير قرآنية ربانية، تشكّل منهجا وسلوكا متكاملا للتحالفات، إذا ما أردنا التحدث عن الواقع الآني(الواقع السياسي، الاجتماعي، الثقافي، الاقتصادي، التربوي...) فهذا الخطاب القرآني لم يبق لأحدٍ حجةً للتحالف مع مَن أذله الله، فيطمح بتحالفه أن يُعز مَن أذله الله، أو يُذل من أعزه الله تعالی.
وهذا يعني؛ أن الذي يعيش هذا اليقين سواء كان فردا، أم جماعة، أم مؤسسة أم دولة؛.يعيش يقين الاعتقاد بقدرة الله تعالی، يكون في قمة العزة والاعتداد، فقد منحه يقينه الی أن يتحول اعتداده واعتزازه، من الاعتداد بالنفس إلی الاعتداد بالله تعالی وقدرته ومشيئته، وبناءً علی ذلك ينبغي للجهة المتيقنة المؤمنة أن يكون خطابها قويا، ثابتا، صلبا... فأي جهة أخری متسلطة ومالكة لا تأثير لها ولا قدرة لها، إذا كانت عاصية، شيطانية غير رحمانية،فإن قوانين الله ستلاحقها وتحكمها، فلا عزة إلا لمن أراد الله أن يعزه، ولاذلة إلا لمن أراد الله إذلاله
وقد قال رسول الله الأعظم(صلی الله عليه وآله): ((إن الله تعالى يقول كل يوم: أنا ربكم العزيز، فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز))(٥) ويختزل قولُ الإمام علي (ع) كل ما ورد، وكل ما تبيّن وهو :((من أراد الغنى بلا مال، والعز بلا عشيرة، والطاعة بلا سلطان، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه واجد ذلك كله))(٦) وكذلك قول الإمام الصادق(ع):
((من أراد عزا بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذل معصية الله إلى عز طاعته))(٧).
https://telegram.me/buratha