بقلم الدكتور: عبدالحميد قدوع
محاضر في اللسانيات، جامعة طرابلس
احتكار الشجاعة
كل ما يمكن قوله في هذا الوقت هو أن إخواننا وأخواتنا في غزة قد احتكروا الشجاعة احتكارا، فجعلوها لا تجاوزهم ولا تحل دونهم، بل إنهم جعلوها تسير حيث يسيرون. وهم بذلك قد انتزعوا الوصاية على المسجد الأقصى المبارك، انتزعوها انتزاعا من جانيت أو هي انطوانيت. والمقصود هنا المرأة التي ولدت عبدالله، ملك الأردن الحالي، من أبيه الملك حسين. (ذكرها الدكتور أسامة فوزي، صاحب موقع عرب تايمز، مرة باسم جانيت ومرة باسم انطوانيت ومرة أخرى أوردها باسم عربي).
هل هي وصاية هاشمية أو هي وصاية جانيت؟
درجت ما تسمى مجازا وسائل الإعلام العربية، التي هي في الحقيقة وسائل العار العربية، درجت على التسويق لفكرة أن هناك تفاهما بين ولد جانيت ومحمود عباس، كبير الخونة رئيس ما يسمى السلطة الفلسطينية، على أن تكون الوصاية على المقدسات الإسلامية في مدينة القدس للحكومة الأردنية، باعتبارها هاشمية يرأسها رجل ينتمي إلى النسب الهاشمي الشريف، هو الملك عبدالله بن الملك حسين الهاشمي القرشي. وفي سياق الحديث عن أخلاق هذه العائلة، التي تزعم أنها هاشمية، نورد ما ذكره موثقا صاحب موقع عرب تايمز من أنه في عام 1961 دعا الملك حسين مصور مجلة المصور المصرية إلى خليج العقبة ليصوره هو وعروسه جانيت وهما في ملابس البحر، ملابس البحر الأوربية. وتم نشر الصور عمدا بين أهل الأردن المعروفين آنذاك بأنهم مجتمع محافظ لا تظهر فيه المرأة على الناس إلا وهي مغطاة من رأسها حتى قدميها. ثم فعل ذلك ابنه الملك الحالي مع زوجته الملكة رانيا. وفي صيف هذا العام 2023 فعل الشئ نفسه حفيده المسمى على اسمه الأمير حسين عبدالله حسين، فعله هو وزوجته الأميرة رجوة. يقول الله تعالى: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون" 24/19.
وفي مظهر آخر من مظاهر أخلاق هذه العائلة يذكر الدكتور أسامة فوزي موثقا أن الملك حسين ظل يعمل مخبرا لصالح وكالة المخابرات الأمريكية منذ عام 1957 حتى عام 1975. وقد ذكر هذا من قبله الصحفي المصري المخضرم محمد حسنين هيكل. وقد بلغ الحديث عن عمل الملك حسين لصالح المخابرات البريطانية والأمريكية حد التواتر. هذه هي أخلاق هذه العائلة الهاشمية التي تحكم جنوب شرق الشام الكبير، المسمى الأردن مجازا، تحكمه بالوكالة عن بريطانيا منذ أن تأسست دولة الأردن في القرن الماضي. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، ويقول الله تعالى: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا" 4/123-124. وأبو لهب اسمه عبدالعزى بن عبدالمطلب بن هاشم، فهاشم هو جده المباشر، ومع ذلك فهو من أهل النار كما حدثنا الله تعالى في القرآن، "ومن أصدق من الله حديثا" 4/87. إن معيار المفاضلة عند الله بين خلقه هو التقوى، يقول الله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" 49/ 13. والتقوى هي الوقوف دون حدود الله.
الخال
في سياق الحث على النسب الطيب يقال: دوّر(ابحث) لولدك عن مخول. وفي سياق التنازع بين الأعمام والأخوال على الولد، يقال: الولد خال، الثلثان للخال والخال والد. ويقال أيضا: إن جعت عليك بأخوالك وإن ضمت عليك بأعمامك. وسئل البغل: من أبوك؟ فأجاب: الحصان خالي. وبعد الدفن ينادى المدفون: يا ابن فلانة وليس يا ابن فلان، بحسب الأثر الشريف. والسؤال الكبير الذي وجهه الدكتور محمد المقريف إلى معمر بومنيار القذافي هو: من هم أخوالك؟ وهنا نسأل ولد جانيت: يا أيها الملك، من هم أخوالك؟ وما هي لغتك الأم، اللغة التي علمتها لك أمك؟
الدين والشعائر الدينية
الفلسفة الإنجليزية الحديثة ترى أن الدين له مكونان أساسان، المكون النظري وهو النص المكتوب والمكون العملي وهو الشعائر المتبعة. ولكي تقضي على الدين عليك أن تبدأ بالعمل على إبطال الشعائر، فإذا انتهى الناس عن ممارسة الشعائر يبقى النص النظري حبيسا في الصحائف، ومع مرور الزمن تتطور اللغة وتتغير حتى يصير النص طلاسم لا يفهمها إلا المختصون في فك الرموز العتيقة. وللتأكيد على دور الشعائر في الدين نورد تعريف الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم حيث يقول: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته". وللحديث عن هذه الفكرة وعلاقتها بما يحدث الآن في جنوب غرب الشام، المسمى فلسطين، من صراع بين الإيمان والكفر، هذه قراءة أعرض فيها جانبا من سيكولوجية اليهودي من خلال قصة هي من وحي الخيال.
نتنياهو وهرتزل
في إحدى الليالي كان اليهودي بنيامين نتنياهو، رئيس السلطة التنفيذية في الكيان اليهودي في جنوب غرب الشام في هذا الوقت، نائما فأتاه في المنام اليهودي تيودور هرتزل، أحد مؤسسي الكيان المذكور، فسأله: لعلكم الآن انتهيتم من المرحلة الثانية من المشروع وقضيتم على مسجد يثرب والآن تتهيئون إلى المرحلة الأخيرة هدم الكعبة في مكة. أطرق اليهودي نتنياهو مليا ثم رفع رأسه وأجاب: في الحقيقة إننا ما زلنا لم ننته من المرحلة الأولى، فلم نهدم حتى المسجد الأقصى بعد. استغرب هرتزل ما قاله نتنياهو وتساءل: مضى الآن أكثر من سبعين عاما ولم تنتهوا حتى من المرحلة الأولى!
الحرب الباردة ودور المسلمين فيها
أجاب نتنياهو: لم تكد دولتنا تتكون حتى دخل العالم في حرب باردة بين المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي في الشرق والمعسكر المرابي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في الغرب. واحتاج المرابون إلى الاستعانة بالمسلمين في مواجهة انتشار الشيوعية، لأن الحرب لم تكن حرب سلاح بقدر ما كانت حرب عقائد. فكان من الضروري تأجيل عملية البدء في هدم المقدسات الإسلامية حتى لا تثور المشاعر في العالم الإسلامي، وحتى يستمر المسلمون في الاصطفاف مع الغرب في مواجهة انتشار الشيوعية، باعتبارها عقيدة إلحاد، لأن عقيدة المسلمين قوية جدا وتمسكهم بها قوي. وبالفعل فقد تم استدراج الجيش الأحمر لقتال المجاهدين الأفغان وحشد العالم الإسلامي خلف الأفغان. فدخل الاتحاد السوفييتي في حرب استنزاف طويلة مع المسلمين، حتى أخرج المجاهدون المتطوعون من مختلف دول العالم الإسلامي الجيش الأحمر من أفغانستان مهزوما. فساهم ذلك في تدهور الاتحاد السوفييتي إلى أن تفكك بعدها، وانهار المعسكر الشيوعي كله بفضل مساهمة المسلمين.
ومع ذلك، في أثناء الحرب الباردة نجحنا في تنفيذ خطة اقترحها عمنا كيسنجر لتحييد الجبهة الجنوبية عن الصراع معنا من خلال احتلال سيناء عام 1967، وأعدناها إلى مصر بعد ست سنوات مقابل الالتزام بعدم الدخول معنا في أي صراع. ثم قامت بعدها عمتنا جانيت بإقناع الملك حسين بتوقيع اتفاقية معنا، فتم تحييد الجبهة الشرقية الأطول من غير مقابل. ولم تبق إلا الجبهة الشمالية مفتوحة علينا.
فلسوء الحظ أنه ما إن بدأت بوادر انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، حتى ظهرت ثورة إسلامية في إيران أطاحت بالشاه حليفنا المخلص. وأول ما قامت به هذه الثورة الإسلامية هو طرد ممثلينا في طهران وتسليم سفارتنا لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان شعارها الأول والآخر هو استعادة القدس. ثم سخرت جزءا كبيرا من إمكاناتها المادية والعسكرية لابتعاث حركات جهادية مضادة لنا في الشام والعراق واليمن، لا تزال تمنعنا من إكمال المرحلة الأولى من المشروع.
الهدف النهائي
أما في ما يتعلق بالمرحلتين الثانية والثالثة من المشروع فإن الجيل الحالي من حكام الجزيرة العربية والخليج تمت تربيته تربية يهودية خالصة، حتى صاروا مستعدين لتسليمنا مفاتيح يثرب وحتى مكة من غير قتال، وهم فرحون، وبتنسيق تام مع علماء الدين لديهم. ولا يحتاجون إلا إلى بعض الوقت لتغيير أمزجة الأجيال الشابة من شعوبهم.
حصان طروادة
سكت بعدها نتنياهو فرد عليه هرتزل بنبرة تعليمية: تذكر دائما يا بني أن ذلك المشروع هو أكبر من حجمنا نحن اليهود، وأن مهمتنا فيه هي توفير الذرائع وفتح الطريق لدوائر المرابين في الغرب الامبريالي للسيطرة على جزيرة العرب، وإزالة ما فيها من مقدسات إسلامية حتى يتم القضاء نهائيا على الشعائر الإسلامية. ذلك في مقابل أن يعيش اليهود في الطبقات العليا، أو الوسطى على الأقل، حيثما وجدوا بين المجتمعات الأخرى. ويجب أن تظل هذه الحقيقة بين النخبة، فلا تتسرب إلى الرأي العام اليهودي حتى يبقى عامة اليهود غافلين عنها. فنحن اليهود أقلية في هذا العالم الكبير، ونحن في تناقص مستمر، وليس لنا إلا الارتكاز على الأقوياء بربط مصالحنا بمصالحهم حتى لا يعيش شعبنا في الطبقات الفقيرة. إن العلاقة بيننا وبين الغرب الامبريالي هي مثل علاقة جيش الإغريق بالحصان الخشبي الذي فتحوا من خلاله مدينة طروادة. فالمرابي الامبريالي الغربي لا يستطيع الدخول إلى الجزء الغربي من جزيرة العرب إلا من خلالنا، فوجود أجدادنا فيه ثابت حتى في كتاب المسلمين. ثم أدرك بنيامين نتنياهو الصباح.
محور الحُسنيين ومحور الخيانة
إن حركة حماس وحركة الجهاد وغيرهما من الحركات الجهادية في جنوب غرب الشام، المسمى مجازا فلسطين، وحزب الله في الشام الأوسط، المسمى مجازا لبنان، في الركن الشامي للبيت العتيق، وبسيج العراق الحشد الشعبي بمكوناته الكثيرة في الركن العراقي للبيت العتيق، وحركة أنصار الله في الركن اليماني للبيت العتيق، أولائك هم المكونون لما ينبغي أن نسميه "محور الحُسنيين (النصر والشهادة)" اهتداء بقوله تعالى: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون" 9/ 51-52. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له". وما يسندهم بعد الله تعالى إلا جمهورية إيران الإسلامية، بلاد سيدنا سلمان الفارسي، رضي الله عنه.ِ
ذلك هو "محور الحُسنيين" في مقابل "محور الخيانة" الذي يتزعمه قادة الطوابير الأمريكية الخامسة في عواصم الدول العربوفونية كلها إلا صنعاء وإلا دمشق. ففي الشام الشمالي، المسمى مجازا سوريا، هناك طابور روسي، وليس أمريكي، خامس يحكم دمشق يقوده الطبيب بشار الأسد. وأما قادة الطوابير الأمريكية الخامسة فيبدءون بحمد بن عيسى، زعيم أصغر دولة عربوفونية، القائد الأعلى للطابور الأمريكي الخامس في المنامة. وينتهون بعبدالغلاق السيسي، زعيم أكبر دولة عربوفونية، القائد الأعلى للطابور الأمريكي الخامس في القاهرة، الذي أغلق الأبواب على أهل غزة. كما أغلق أبواب الخير على أهل غزة، اللهم أغلق أبواب جنتك أمام عبدالفتاح السيسي يوم الحساب، آمين.
(استخدم مصطلح "العربوفونية" بدل "العربية" مراعاة لمشاعر من نعيش بينهم ويعيشون بيننا على الأرض الممتدة من العراق شرقا حتى مراكش غربا. يبدءون من الكرد في أقصى الشرق إلى الأمازيغ في أقصى الغرب، وما بين ذلك من طوارق وتبو وقبط ونوبيين وبجا وشركس وأرمن وفينيقيين وسريان وآشوريين وكلدان وتركمان، وغير ذلك من تنوع عرقي. أجمل به وأكرم من تنوع. فلا يربطنا جميعا شئ إلا رابط اللسان. أما مصطلح "الطابور الخامس" فقد ظهر في فترة الحرب الأهلية في اسبانيا في ثلاثينيات القرن الماضي ليدل على العناصر الخائنة والعملاء الذين كانوا يعملون من الداخل لصالح جماعة العدو. ثم عمت دلالته).
إمارات الموز الأسود
"جمهوريات الموز" هو مصطلح ظهر في بداية القرن العشرين للدلالة على حكومات دول أمريكا الوسطى ومنطقة الكاريبي التي كانت تعتمد في اقتصادها على إنتاج فاكهة الموز. وتديرها حكومات فاسدة لا تخدم إلا مصالح الشركات الأمريكية لتسويق الفاكهة. ثم عمت دلالة هذا المصطلح لتشمل كل حكومة تخدم المصالح الخارجية على حساب طموحات شعوبها وتطلعاتهم.
بعد أن قضت بريطانيا على نفوذ الخلافة الإسلامية العثمانية في شبه جزيرة العرب بالتعاون مع بعض القبائل العربية مع انتهاء ما عرف بالحرب العالمية الأولى، وبعد اكتشاف النفط في الجزء الشرقي من جزيرة العرب المحاذي لما يعرف في الخرائط القديمة بخليج فارس، أنشأت بريطانيا إمارات عربية تابعة لها ومرتبطة بالولاء لها بمعاهدات مثل معاهدة "دارين". وجعلتها لا تعتمد في اقتصادها إلا على إنتاج البترول الذي تديره شركات بريطانية ثم شركات بريطانية وأمريكية. ويتم تسخير الجزء الأكبر من ريع هذا البترول في خدمة مصالح الدول الامبريالية الكبرى، أمريكا وبريطانيا خاصة بصورة مباشرة وغير مباشرة، على حساب مصالح المسلمين. وكثير منه ينفقه أمراء الموز الأسود في الإسراف واللهو والمجون، وعلى إلحاق الأذى بالمسلمين كما حدث في العراق والشام واليمن.
وأكبر هذه التوابع هي ما تسمى المملكة السعودية، التي تشتمل على المناطق الممتدة من نجد شرقا حتى الحجاز غربا. وتمتد من تخوم الأنبار والشام وتبوك شمالا حتى الربع الخالي وشمال اليمن في اتجاه الجنوب (نجران وجيزان وعسير هي اليمن الشمالي، أما مناطق صعدة وصنعاء وما بينها فهي وسط اليمن). يقول الله تعالى في السورة الرابعة في ترتيب المصحف: "بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا" 138-139. وفي الآية 144 من السورة نفسها يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا". وفي السورة الخامسة يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" 51. وتبدأ سورة الممتحنة رقم 60 بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق"، وفي الآية التاسعة نجد قوله تعالى: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولائك هم الظالمون"، وتنتهي السورة بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور". وفي آخر آية من سورة المجادلة رقم 58 يقول الله تعالى: "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولائك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولائك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون".
وعلى الجانب الشرقي من الخليج كانت هناك جمهورية كبيرة من جمهوريات الموز الأسود حين قامت أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية بالإطاحة بحكومة منتخبة ديمقراطيا جاءت بمحمد مصدق إلى الحكم. وذلك عندما حاول أن يلبي طموحات الجمهور الذي انتخبه، فعزم على تحرير صناعة النفط الإيراني من الاحتكار البريطاني. فأطيح به في عام 1953 في ما صار يعرف بـ "عملية أجاكس". فاستقام الأمر لشاه إيران محمد رضا بهلوي، حتى صار يعرف بشرطي أمريكا في الخليج، إلى أن أذن الله تعالى بقيام جمهورية إسلامية في إيران في آخر العقد السابع من القرن العشرين.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
ولقد قامت جمهورية إيران الإسلامية على أساس قوي منذ البداية. حيث سيطرت طبقة رجال الدين، المخلصين لله أولا ولشعبهم وللأمة الإسلامية ثانيا، سيطروا على الجيش وعلى الأجهزة الأمنية. ثم استحدثوا جيوشا موازية لتمكين الحماية للجمهورية الإسلامية، مثل الحرس الثوري والبسيج. لقد كان لهم في تجربة محمد مصدق في الخمسينيات درس تعلموه جيدا. حيث اهتدوا إلى أنه قبل التفكير في الدخول إلى التنافس الانتخابي لا بد من السيطرة على الجيش وعلى السلاح. ذلك لأنه في هذا الزمان، وربما في كل زمان، من يسيطر على الجيش وعلى السلاح هو الذي يحكم، من غير اعتبار لعدد الأصوات التي يحصل عليها في الانتخابات. ولم يكن كل ذلك يسيرا، بل جاء ثمرة للصبر والمصابرة والمرابطة والمثابرة والمجاهدة طوال عشرات السنين. يقول الله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" 29/69. وهذا لأنهم "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" 33/23.
فمنذ بداية الثورة قدم رجال الدين، ومعهم كثير من العناصر الوطنية المعادية للغرب الامبريالي، قدموا تضحيات كبيرة من خلال صبرهم وتصديهم للمؤامرات والجرائم التي حاكتها الدوائر الامبريالية الغربية، بريطانيا وأمريكا خاصة. ونفذتها أذرعتهم في الداخل الإيراني، مثل منظمة مجرمي "خلق"، التي لا تزال تعمل على إلحاق الأذى بالجمهورية الإسلامية الإيرانية حتى الآن بدعم أوربي وبريطاني وأمريكي مفضوح.
الصعلوك المغامر
ولم تقتصر محاولات الغرب الامبريالي من أجل وأد الجمهورية الإسلامية في مهدها على الأذى من داخل إيران، بل صاحبه اعتداء خارجي استغرق معظم سنوات العقد الثامن من القرن العشرين. وبدأ ذلك بإرسال مبعوث أمريكي من أصول ألمانية هو دونالد رمسفيلد، الذي تولى وزارة الحربية مرتين منفصلتين، إلى العراق. فأمر رئيس العراق، في ذلك الوقت، أحمد حسن البكر أن يشن حربأ على إيران، فرفض البكر الأمر لأنه ضابط عسكري محترف يعرف موازين القوة بين العراق وإيران. فتم حمله على الاستقاله ليحل محله صعلوك مغامر، اسمه صدام حسين، ليس له من الشأن العسكري شئ إلا الثياب العسكرية التي يرتديها من حين لآخر. فقام بالحرب على إيران التي استمرت ثماني سنوات. وصدرت الأوامر لأمراء الموز الأسود بدعم المجهود الحربي، فتم تسخير الموارد المالية لأمارات الموز الأسود كلها لتغطية تكاليف الحرب. ولكن، الحمد لله. فلم تفعل تلك الحرب إلا استظهار قوة الثورة الإسلامية الإيرانية في الصمود وإحباط المؤامرات أو احتوائها، بل تعدى ذلك إلى ابتعاث حركات مقاومة في الركن الشامي للبيت العتيق.
ولما لم ينجح هذا الصعلوك المغامر في مغامرته الأولى، سرعان ما تم استدراجه للقيام بمغامرة ثانية هي أسهل من الأولى. وهي توفير ذرائع لدخول الجيوش الامبريالية الغربية لتوفير الحماية لأمراء الموز الأسود ولسلطاتهم من احتمالات تردد أصداء الثورة الإسلامية الإيرانية في الجزء الغربي من الخليج. فقام بغزو دويلة الكويت. فشرعت مكنات الإعلام الغربية والعربية في تضخيم قدرات ذلك الصعلوك المغامر لتهيئة الرأي العام العربي والإسلامي لقبول دخول قوات صليبية إلى جزيرة العرب.
حدثني صديق من إحدى مناطق الجزيرة العربية، التقيته في جامعة إكستر في الفترة التي أعقبت غزو الكويت، حين سألته كيف سمح علماء الدين بدخول جيوش الكفر إلى جزيرة العرب. فقال: تمت صياغة صور أقمار صناعية مزورة تظهر حشودا لقوات عراقية على حدود نجد تستعد لاحتلال الرياض كما فعل بالكويت. فقام الملك فهد باستدعاء جماعة من علماء الدين وطرح أمامهم الصور. وأخذ يحاول إقناعهم بإصدار فتوى تجيز الاستعانة بقوات أجنبية، لأن قوات المملكة لا تقوى على مجابهة جيش العراق. فرفض بعض العلماء ذلك مجادلين أن جيوش الصليبيين إذا دخلت فلن تخرج طوعا، ومقترحين إصدار دعوة إلى جهاد الدفع إن حدث هجوم من الجيش العراقي. لكن بعض العلماء وافقوا الملك فهد على طلبه، وتم إعلان الفتوى. فدخلت الجيوش الصليبية الجزء الشرقي من جزيرة العرب ولم تخرج منه حتى الآن.
نهاية الصعلوك المغامر
منذ توليه الحكم في النصف الثاني من عام 1979 حتى سقوطه عام 2003 لم يفعل الصعلوك المغامر المدعو صدام حسين شيئا ذا بال إلا القيام بهاتين المغامرتين خدمة للمرابي الامبريالي الغربي. حيث فشل في الأولى ونجح في الثانية. ولقد وفر بقاؤه في الحكم بعد غزو الكويت ذريعة للمرابي فدمر العراق على جميع المستويات تدميرا. ثم جاء مقتله على أيدي حلفاء الأمس في أواخر أيام عام 2006، بعد محاولات يائسة من المرابي الامبريالي الغربي وأمراء الموز الأسود لإحداث فتنة بين المسلمين في العراق على أساس مذهبي استغرقت مدة اعتقاله. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أعان ظالما سلطه الله عليه".
الردع النووي
في أثناء ذلك تطورت قدرات الجمهورية الإسلامية الإيرانية تطورا كبيرا في جميع المجالات، رغم الحصار الذي فرضته الامبريالية الغربية عليها. فصارت إيران تصنع كل شئ تقريبا، من الإبرة حتى الصاروخ. حدثني صديق قريب، أشترك معه في الانتماء القبلي، أن شباب الثورة الإسلامية الإيرانية كانوا يتوقدون حماسا ونشاطا أثناء تعلمهم مهارات تجهيز الصواريخ الباليستية وإطلاقها. الصواريخ التي اشتراها القذافي من الاتحاد السوفييتي ثم أرسل بعضها إلى إيران. (كان صديقي قد شارك في بعثة عسكرية غير معلن عنها رسميا. أرسلها القذافي إلى إيران لمساعدتها في حربها مع الصعلوك المغامر مدفوعا بعاملين: الأول الرغبة في الانتقام من صدام حسين، الذي كان يدعم المعارضة الليبية التي يتزعمها آنذاك الدكتور محمد المقريف. والعامل الثاني هو التغطية على جريمة قتل الإمام الشهيد موسى الصدر، الذي أسس حركة أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) التي تمخض عنها حزب الله المبارك. أمر القذافي بقتل الإمام خدمة لأخواله اليهود).
وبالفعل، لم تمض سنوات قليلة حتى صارت إيران لا تشتري الصواريخ الباليستية بل تصنع صواريخ باليستية وغير باليستية أكثر تطورا من تلك. ثم دخلت مجال الأقمار الصناعية والفضاء وحتى المجال النووي. وقد سمعنا مؤخرا أن روسيا الدولة العظمى نفسها تشتري السلاح من إيران. فلم يبق إلا أن تصدر فتوى شرعية تجيز حيازة السلاح النووي، وإلا زيادة مدى الصواريخ الحالية حتى يصل مداها إلى بر خانق البقر (كاو بوي). وذلك ممكن استنادا إلى قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" 8/60، وإلى القاعدة الشرعية "الضرورات تبيح المحظورات". فالمرابي الامبريالي الغربي لن يتردد أبدا في ضرب إيران بالسلاح النووي إذا استنفد ما دونه من وسائل.
اليهود ليس لديهم سلاح نووي
في سبيل نشر الروح الانهزامية بين المسلمين وتثبيط هممهم، تقوم وسائل العار العربية منذ زمن طويل بالترويج لكذبة أن اليهود يمتلكون عشرات أو مئات القنابل النووية جاهزة للاستخدام في أي لحظة ضد المسلمين. وأن لديهم مفاعلا نوويا في صحراء النقب. والذي لا أشك فيه أن هناك أسبابا كثيرة تمنع اليهود من حيازة السلاح النووي. أولها أن المرابي الامبريالي الغربي لا يثق في اليهودي ولا يأتمنه، بل إن اليهودي لا يأتمنه أحد. يقول الله تعالى عن اليهود: "أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم" 2/100. لكني سوف أقصر حديثي هنا على العامل الجغرافي.
فمن المعلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تبلغ مساحتها حوالي عشرة ملايين كيلو متر مربع، كانت أول دولة تمتلك السلاح النووي. وقد استخدمته ضد اليابان في عام 1945. ولم تمض أربع سنوات حتى أجرى الاتحاد السوفييتي، الذي تبلغ مساحته في ما أذكر اثنان وعشرون مليون كيلو متر مربع، تجارب نووية معلنا نفسه دولة نووية. (تبلغ مساحة روسيا، التي ورثت الأسلحة النووية السوفييتية كلها، سبعة عشر مليون كيلو متر مربع). وبقي هذا الحال حتى عام 1956، حين أنذر الاتحاد السوفييتي بريطانيا وفرنسا بأنه سيضربهم بالسلاح النووي، إذا لم يوقفوا الحرب التي شنوها على مصر من أجل السيطرة على قناة السويس. وقد رضخت بريطانيا وفرنسا للإنذار السوفييتي فأوقفتا الحرب. قامت بعدها بريطانيا وفرنسا على التوالي بتصنيع السلاح النووي، وحيازة عدد محدود من القنابل النووية لضمان الردع النووي.
لقد كان بإمكان كل من بريطانيا وفرنسا امتلاك السلاح النووي قبل ذلك. وربما لولا الإنذار السوفييتي لما أقدمتا على تصنيعه وحيازته. وذلك لأن المساحة الجغرافية لكل منهما صغيرة نسبيا، لا تضمن السلامة من الأخطار المحتملة لحيازة السلاح النووي وتخزينه. إن حيازة السلاح النووي "كمن يربي الأفعى في كمه"، كما يقول المثل. فإذا كانت مساحة بريطانيا أو فرنسا لا تكفي لضمان السلامة النووية، فكيف بالمساحة التي يسيطر عليها اليهود في الجزء الجنوبي الغربي من الشام (فلسطين) التي هي أصغر كثيرا من مساحة بريطانيا أو فرنسا. فلا يمكن أبدا تصور أن تمتلك دول مساحتها مشابهة لمساحة فلسطين، مثل هولندا أو بلجيكا، السلاح النووي رغم أنه لا يوجد ما يمنعها من ذلك من الناحية التقنية أوالسياسية. وحتى إذا اتخذت احتياطات السلامة كلها فإن خطر حدوث الكوارث الطبيعية مثل الزلزال أو الطوفان يظل كافيا لعدم ضمان السلامة المطلقة. فلا مناص من مخاطر تخزين السلاح النووي إلا بالمساحة الجغرافية الكبيرة، وهو ما ليس موفرا في جنوب غرب الشام، المسمى فلسطين. وليخسإ المرجفون في المدن العربوفونية.
عود على بدء
إن ما يحدث في جنوب الشام وارتداداته في الشام الأوسط والعراق واليمن قد يكون أمرا دهشا للجميع إلا لفئة واحدة هم أهل القرآن، الذين يتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار. فالقرآن الكريم يصف أهل الشام بأنهم قوم جبارون، فقد ورد في السورة الخامسة قول الله تعالى: "وإذ قال موسى لقومه يا قومي اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قومي ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" 20-24. ويصف القرآن الكريم أهل العراق بأنهم عباد له أولوا بأس شديد: "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا" 17/4-5. وورد وصف أهل اليمن بأنهم أولوا قوة وأولوا بأس شديد تزينهما بصيرة يمانية: "قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين" 27/32-33.
أما في ما يتعلق بتعامل أهلنا في غزة، وفي الضفة الغربية لنهر الأردن، مع ما يتعرضون إليه من ابتلاء فيمكن النظر إليه من خلال قوله تعالى: "الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" 29/1-3. وقوله تعالى: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم" 47/31. ونحسب عند الله أنهم ينجحون في هذا الاختبار العظيم.
فقد استمعت مؤخرا إلى خطيب جمعة زائر، وهو أكاديمي اختصاصي في السيرة النبوية، كان قد زار جنوب غرب الشام (فلسطين) ومكث بين أهله أياما، وعايش معهم الأحداث الجسام. ورأى ما تقوم به النساء الشاميات من صبر ومساندة ومؤازرة للمجاهدين من غير تذمر أو كلل. وقد دهش عندما علم أن هذا السلوك هو سلوك اعتيادي عندهم، اعتادوا عليه جيلا بعد جيل. فخرج بنتيجة مفادها أن ذلك ما هو إلا تجسيد لما كانت تقوم به النساء المسلمات في سنوات الإسلام الأولى، أثناء الجهاد مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. يقول الله تعالى: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون" 3/139-143 ويقول تعالى: "ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولائك هم المهتدون" 2/155-157.
الدكتور: عبدالحميد قدوع
محاضر في اللسانيات- جامعة طرابلس
https://telegram.me/buratha
