جميل ظاهري
امتاز أهل بيت العصمة والطهارة من أبناء الرسول الأكرم (ص) بالعلم الذي خصهم الله سبحانه وتعالى دون غيرهم، فكانوا رواده وخزائنه وأنواره، أخذوه سالف عن سابق عن جدهم أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (ع) مدينة علم جدهم النبي الأعظم (ص) القائل:"العلم خزائن، ومفتاحها السؤال، فاسألوا رحمكم الله، فإنه يؤجر أربعة: السائل والمجيب، والمستمع، والمحب لهم"- المجازات النبوية للشريف الرضي ص 209.
ولكن لا بد من القول أن الغاية من جمع العلم في الدين الاسلامي المحمدي الأصيل هو بذله لأهله وإشاعته بين الناس بهدف طرد الجهل والظلام حتى ينعم العباد والبلاد بالسعادة، كما قال الامام محمد الباقر عليه السلام خامس أنوار الهداية للبشرية برمتها والذي نعيش اليوم ذكرى ميلاده المبارك:"زكاة العلم أن تعلمه عباد الله" - أصول الكافي ج1 ص41.
وقال أيضاً (عليه السلام) :" إن الذي تعلم العلم منكم له أجر مثل الذي يعلمه، وله الفضل عليه، تعلموا العلم من حملة العلم، وعلموه إخوانكم كما علمكم العلماء" - حياة الامام محمد الباقر (ع) للقرشي ج1 ص236.
فاستمد العالم الاسلامي من الامام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) جميع مقومات نهوضه وارتقائه في المنهج الحضاري؛ ولم يقتصر المَد الثقافي والحضاري على عصره، وإنما امتد الى العصور التالية، وذلك لاكمال رسالة أهل البيت (عليهم السلام) في تطور الحياة العلمية والاجتماعية في الاسلام الحنيف كي لا يعيش المسلمون ما كان يعيشه اسلافهم في الجاهلية والشرك والضلالة والظلام قبل الاسلام.
وفي عالم مليء بالاضطرابات والفتن والأحداث الدامية والعصبية القبلية المدمرة، وعصر وضيع وبشع للغاية بسبب التنازع الداخلي بين المسلمين أفقد الأمة أمنها وأنتشر الخوف فيها، قامت ثورات دامية ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء نتيجة السياسة الأموية الخاطئة التي كان كل هَمُّها تحقيق أهدافها الخاصة ومآربها الشخصية بعيداً عن مصالح المسلمين، ظهرت أحزاب سياسية كل منها كان يسعى لتحقيق غاياته، ونشر مبادئه الانحرافية التي تتعارض غالبيتها مع واقع الاسلام وحقيقته.
وفي زمنه (ع) حملت العناصر الحاقدة على الدين الاسلامي المحمدي موجات من الكفر والالحاد والزندقة حيث أعرض الحكّام الأمويون عن ملاحقة دعاتها بهدف السماح في انتشارها بين المسلمين، حيث تصدى لها الامام الباقر وولده الامام الصادق (عليهما السلام) عبر نقدها وتزييفها .
وبدأت ولاية الامام محمد الباقر (ع) وإمامته التي استمرت (19) سنة ، في عهد الوليد بن عبد الملك الأموي الذي شُغِلَ عن آل البيت (ع) طوال فترة حكمه بتصفية أسرة الحجاج بن يوسف التي كانت تمسك بزمام السلطة في عهد أخيه الوليد بن عبد الملك؛ وجاء من بعده عمر بن عبد العزيز الذي اتّسمت مواقفه ببعض الإنصاف تجاه أهل البيت(ع) فمنع سبّ أمير المؤمنين الامام علي (ع) من على المنابر الذي كان بنو أمية قد اتخذوه سنّة بأمر معاوية بن أبي سفيان، وأعاد فدك سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) الى الامام الباقر (ع)، ثم جاء من بعده يزيد بن عبد الملك الذي انصرف هو الآخر كاسلافه الى حياة الترف واللهو والمجون.
فاستغل الامام أبي جعفر الباقر (ع) هذه الظروف ليعيد لأمة جده المصطفى (ص) جميع مقوِّمَاتها التي أرادها الله سبحانه وتعالى في وحدتها وتطورها ، في ميادين العلم والعطاء . ليقوم بواجبه الرسالي الألهي لاعادة مَجْد الأمة الاسلامية واعادتها الى الطريق الصحيح والسليم ، والعمل على بناء صرحها الحضاري الذي لا يتم إلا عبر منائر العلم وصروح الفكر. فانصرف (عليه السلام) عن التحرك السياسي ، واتَّجه صوب العلم والمعرفة في عزلته بالمدينة المنورة حصن الاسلام الأمين . وفي هذا الحصن المنيع كان يَحفُّ إليه العلماء من أعيان الأمة من مختلف الأقطار ، للاستفسار والشرح والتحصيل . وكان ممن وفد إليه العالم الكبير جابر بن يزيد الجعفي، ومحمد بن مسلم الطائفي، وأبو بصير المرادي، وأبو حمزة الثمالي، ووفود علمية تترى جاءت لتأخذ من منهل مدرسة أهل البيت (ع) العلوم والمعارف تلك المدرسة التي تميزت بالاتصال بالنبي (ص)، والمُرُونة، وفتح باب الاجتهاد، والرجوع إلى حكم العقل وتنوع علوم المدرسة.
وازدهرت هذه المدرسة الالهية بفضل الامام محمد الباقر(ع) حتى باتت معروفة على صعيد ليس العالم الاسلامي لوحده بل على صعيد البلدان برمتها، مما جعل العلماء يلتفون من حوله (ع) من كل حدب وصوب وينهلون من نمير وبحر علومه ومعارفه وحكمه وتفسيراته؛ حيث تخرج منها مجموعة كبيرة من الرواة والمحدثين والعلماء الثقات بعد أن تلقوا من هذا المنهل الفياض الرباني علوماً كثيرة في شتى المجالات، نذكر نموذجاً منهم: "زرارة بن اعين، ومحمد بن مسلم، وابان بن تغلب، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهري، وربيعة الرأي، وابن جريج، والاوزاعي، وبسام الصيرفي، وأبو حنيفة، وجابر بن حيان الكوفي و.. غيرهم.
https://telegram.me/buratha