واقصد بها وصية الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام لولده الحسن السبط عليه السلام ــ تصادف ذكرى استشهاده يوم الاحد القادم ( تشرين الثاني) ــ كتبها اليه بـ (حاضرين) عند انصرافه من صفين.
ولو لم ترد في هذه الوصية العظيمة والشاملة الا عبارة {يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ} لكفى بها وصية تاريخية لا تضاهيها وصيةٌ أبداً.
فلو انّ كلّ واحدٍ منا اليوم تمسك فقط بهذه العبارة من كل الوصية لما كان حالنا مأساوية ويرثى لها أبداً، الا ان مشكلتنا هي ان كل واحد منا نصّب نفسه إماماً وقاضياً وحامياً للدين ومؤدباً ومعلماً وموجهاً وحارساً للقيم النبيلة ومحاضراً وخطيباً وزعيماً ولكن ليس على نفسه وإنما على الآخرين، فتراه يخطّئ هذا ويلعن ذاك ويشتم اخر ويحكم على رابع بالكفر والخروج من الملة وعلى خامس بالجهل وعدم المعرفة وعلى سادس بانه ضد الدين او الشعائر وهكذا دواليك، اما هو فشخص الله المختار الذي خصّه الله تعالى بما لم يخصّ به غيره من العلوم والفنون والاخلاق والمعارف والذكاء الخارق والحق المطلق وكل شيء.
هو لا يعير اهتماما لا لقول قائل ولا لرأي باحث ولا لفكرة مفكّر ولا لدليل عالم ولا لأي شيء، ولكنه ينتظر من الآخرين ان يحترموه ويقدّروه وينتبهوا لكلامه ويصدّقوا قوله حتى اذا كذب وافترى، او اذا جاءت حجته باطلة او ضعيفة او حتى سخيفة.
وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تحمل لنا كل غث وسمين، فترانا نتناقل الاكاذيب ومقاطع الفيديو المجتزأة والمقتطعة من سياقاتها والمفبركة في عملية تضليل كبرى وعظمى من دون ان نتوقف قليلا لننهى انفسنا ونزجوها ونقول لها كفى! الى متى هذا التضليل؟ الى متى هذا الخداع؟ الى متى هذا التسقيط؟ الى متى هذا الكذب على بعضنا؟ الى متى جلد الذات هذا؟ الى متى هذا الدجل؟ الى متى هذا الانشغال بالقيل والقال الأهوج الذي لا ترتجى منه أية فائدة؟.
وادّعي انا شخصياً هنا صادقاً، انني لم استفد مما يصلني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من كل الكم الهائل جداً، الا ربما (..) فقط، والباقي غثاء كغثاء السيل، ولو اننا نبذل معشار الجهد الذي نبذله على هذه الخزعبلات في برامج التربية والتعليم والحوار الهادف والنقد البناء والسعي باتجاه التكامل، لغيّرنا حالنا الى افضل ما يكون، ولكننا استرخصنا الوقت واستخففنا بعقولنا وسفّهنا أولويّاتنا واستهزءنا بالتحديات التي تواجهنا، اذا بعقولنا تحولت الى مكب نفايات من حيث نشعر او لا نشعر.
لو ان كل واحدٍ منا يتساءل مع نفسه قبل ان يكتب او ينشر او يبعث ما يستلمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتساءل:
هل انه صحيح (..) حتى ابعثه للآخرين فأكسب ثواب نشر العلم والمعرفة؟.
هل هو شيء جديد؟.
هل هو شيء مفيد ونافع؟.
هل هو وقته الان؟.
واخيراً؛ من هو المتلقي الذي يمكن ان ارسله له؟ ومن هو المتلقي الذي ينبغي ان لا ابعثه له؟.
اننا اليوم في فتنة، في قلب الفتنة، ننفّذ اجندات الآخرين من حيث نريد او لا نريد، نشعر او لا نشعر، فكل واحدٍ منا طابور خامس وحصان طروادة، حتى اذا حاول ان يبرّر او يهرب من المسؤولية، خاصة شريحة (المعمّمين) فكثير منهم مصدر الفتنة اليوم، ومصدر التحريض عليها او لفت الانتباه اليها، لما يحملونه على رؤوسهم من علامة الدين وشعاره الذي يقدّسه العوام ويتعبّدون به ويتقرّبون به الى الله (ظالماً او مظلوماً) اذا ببعضهم يكذب حتى يخدع العوام، ويمارس الدجل ليحرّض الشارع على الآخرين من اقرانه وزملائه.
ان رقابَ بعض (المعمّمين) قصيرة جداً، فهو يتكلم قبل ان يفكر، يُلغي من حساباته الظرف الزمكاني عندما يتحدث او يخطب، فهو يثير الفتنة ويساهم في تسطيح الوعي وتكريس حالة الجهل والتجهيل في المجتمع.
بعضُهم يتقمّص شخصية فقهاء التكفير ووعاظ السلاطين من حيث لا يشعر، فتراه يوزّع التهم ويحاكم الآخرين على نواياهم ويحتكر الحقيقة والانتماء دون الآخرين.
قد يكون الصمت والسكوتُ اليوم وعدم الخوض في الفتنة دواءُ الدّاء، وصدق امير المؤمنين (ع) الذي يقول يصف اخٌ له {وَكَانَ إذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلاَمِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ}.
فليقف عندنا ما يصل إلينا من هذه الخزعبلات، فلا نمرّرها ولا ننشرها ولا نوزّعها، لتقف عندنا فنقبرها والى الأبد، والا فسنساهم في الفتنة وفي قتل انفسنا واضعاف جبهتنا شئنا ذلك ام ابينا.
https://telegram.me/buratha