* جميل ظاهري
ثورة الامام الحسين (عليه السلام) ثورة اصلاح وهداية لكل البشرية دون استثناء، تميزت عن سائر الثورات بدروسها المشرقة وتضحياتها الجسام في سبيل القيم الإسلامية والإنسانية، ورفضها المطلق للظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعرقي والقبلي والمناطقي والطائفي القائم في الأمة منذ سطوة "الطلقاء"؛ فلمست البشرية في هذه الحركة التحررية الكرامة الانسانية، والحرية الفكرية، والعدالة الاجتماعية، والتسامح الديني، والوفاء لقيم وتعاليم السماء؛ لتلتف الحشود الحرة من حولها متمسكة بسيرتها الأبية ومقدمة الغالي والنفيس لإحياء قيمها على طبق الاخلاص، مجسدة صورة العز والإباء الذي أرسته حاملة راية النهضة الحسينية زينب الكبرى سلام الله عليها في مجلس الدعي بن الدعي زياد بن أبيه مستخفة بمكانته وعقله وحكمه الاجرامي الدموي مخاطبته "مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ (الظفر والفوز) يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ"، رداً على سؤاله وهي أسيرة بين يديه «كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ؟».
أحداث كربلاء الطف عام 61 للهجرة ماهي إلا ثورة من أجل انتصار الإسلام المحمدي الأصيل على إسلام أبناء الطلقاء المزيف والمنحرف وإرهابهم التكفيري، وحركة عاشوراء كانت في حقيقتها حركة إصلاحية شاملة بدأت من ذات الإنسان لتتحرك في المجتمع والمؤسسة والدولة، حيث قالها الامام الحسين عليه السلام " إنّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلا بَطَرًا، وَلا مُفْسِدًا وَلا ظالِمًا، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأَبي عَلِيّ بْنِ أَبيطالِب"، فجعل الله سبحانه وتعالى أفئدة الناس تهوي إليه ويجتمع المؤمنون حوله إكراماً للقرابين الثمينة التي قدمها في سبيل إعلاء كلمة الحق وهو القائل " إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى" صرخة صادحة في كل العصور والدهور يتمسك بها الأحرار رافعين نداء "لبيك ياحسين" في تقديمهم التضحيات الجسام خدمة للدين ومتصدين لإرهاب البترودولار السفياني النفاقي الوضيع الذي يستهدف أمة خاتم المرسلين (ص).
زيارة الأربعين تمثل الطرف الآخر لحبل الله المتين ثورة عاشوراء العز والتضحية والفداء، وهي ايضاً دعوة متجددة للإصلاح وانتصار الدم على السيف، فكانت وما زالت مدرسة عظيمة يتخرّج منها شهداء ومقاومين أحرار صامدين شامخين كالجبال العاتية لايخافون في الله لومة لائم ولا تهزهم العواصف ولا ترعدهم تهديدات أعداء البشرية مهما تعاظم إجرامهم، اولئك الذين يمثلون اليوم الحشد الشعبي في العراق، والدفاع الوطني في سوريا، وقوى المقاومة الاسلامية في لبنان والبعض في فلسطين وانصار الله في اليمن كأنموذجاً حياً في الدفاع عن القيم الانسانية والرسالة المحمدية وعزة وكرامة الأمة .
حتى من غير المسلمين تمسكوا ايضاً بالنهج الحسيني الأبي التحرري الصمودي لتحقيق حريتهم واستقلال بلادهم من براثن الاستعمار الخبيث، منهم المهاتما غاندي قائد استقلال الهند وهو يتشدق بقوله " تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر، حيث تعلم هو وغيره من مختلف الأديان والمكاتب الفكرية كيف يحولون مظلوميتهم الى انتصار على الطغاة والمستكبرين بما أوتوا من أموال قارونية وسلاح فتاك وألوف مؤلفة من جنود الارهاب وإعلامهم مضلل ليفرضوها على المستضعفين المحرومين العُزّل من أسباب القوة المادية، فيما رجال الله الأوفياء يمتلكون الإرادة الحرة وإباء الضيم ورفض الذل ويتحلون بالصبر والمصابرة والشجاعة، ويحسنون التصرف بحكمه فيحوّلون تلك الهزيمة التي يريد الفراعنة الطغاة أن يلحقوها بالشعوب الى نصر، وهذا ما أثمرته تضحيات الامام الحسين (ع) وانتصرت إرادته الحرة على الماكنة العسكرية الضخمة ليزيد حفيد هند آكلة الأكباد وجلاوزته.
لمدرسة الأربعين الحسيني كما ثورة عاشوراء خصوصياتها وأسرارها وتأثيرها الكبير في نفوس الأحرار خاصة أتباع وأنصار أهل بيت النبوة والامامة وهو ما يثير على طول التاريخ النضالي والجهادي بين الحق والباطل والنور والظلمة دعماً للاسلام المحمدي الأصيل في مواجهة الشجرة الملعونة ما أثار ويثير خوف وفزع أبنائها وشيعتها والسائرين بدربها كلما رأوا راية مرفوعة كتب عليها "لبيك يا حسين" لترتعد فرائصهم ويولون هاربين مدبرين على أعقابهم في ظلمات الليل الدامس يجرون من ورائهم ذيول الخيبة والفشل والهزيمة النكراء، كما حدث مع حشود الدواعش في العراق ويحدث حتى اليوم في سوريا ومن قبلهم مع الصهاينة في جنوب لبنان رغم كثرة عددهم وتسليحهم والدعم العالمي الذين يحضون من خونة الأمة وتجار الدم والتكفير والنفاق مادياً وتسليحياً ولوجستياً؛ متسائلين أسباب إندحارهم حتى أمام فئة قليلة من رجال الله لايعرفون للخوف والهزيمة معنا ويرسمون صوراً للبطولات في سوح الوغى، فيما هم نفجّرون شبابهم لنقتل الناس غيلة وغدراً دون جدوى؛ تحقيقاً لوعده تعالى "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" - البقرة: 249 .
أصحاب النفوس الضعيفة والوضيعة لايزال يتصورون أن إحياء الأربعين الحسيني هو إحياء وتذكير انساني بعمق هذه الفاجعة الأليمة وطلباً للثأر بما حل بالامام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه الميامين الذين سقطوا مضرجين بدمائهم الطاهرة ومقطعي الرؤوس والاشلاء وأجسادهم طحنت بحوافر خيول بني أمية السحقاء في ظهيرة يوم عاشوراء عام 61 للهجرة بسيف الغدر والظلم والخيانة والاستعباد والفرعنة على أرض كربلاء، فيما الحقيقة هي إحياء للأمر السماوي في صرخة سيد الشهداء وابي الأحرار (ع) التي صدحت الى عنان السماء برفض كل أنواع الظلم والجبروت والطغيان والفرعنة والعصيان الألهي والانحراف الفكري الذي بناه بنو أمية في مواجهة رسالة السماء الخاتمة التي جاءت لهداية البشرية وأخراجهم من الظلمات الى النور.
فشلت مساعي الشجرة الخبيثة ينبوع الجاهلية والالحاد والشرك والفرقة والنفاق والشقاق والحقد والعداء الدفين لخاتم المرسلين (ص) وأهل بيته الميامين (ع) طيلة الـ14 قرن الماضي، بكل تكاتفها وتوحدها وقوتها وخططهم الجهنمية الماكرة والخدع الوضيعة والدنيئة بمؤسساتها الدينية الوهابية - السلفية وفتاواها التكفيرية، واعلامها السلطوي التزييف في محو رسالة السماء الوحدانية كما فشلت في صدر الاسلام بدسائس التحالف اليهودي - الجاهلي "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ.." الصف: 8؛ واليوم صرخة "لبيك يا حسين" هي تجسيد بكل ما للكلمة من معنى لصرخة العقيلة الهاشمية زينب الكبرى لاتزال تدوي في سماء المعمورة مستحقرة طاغية العصر يزيد الفاسق الفاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، منتهك المقدسات الاسلامية وهو في مجلس جبروته وقصر إجرامه بالشام أمام كبار قادته وحاشيته وحلفائه مخاطبة إياه "يا يزيد .. كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين" .
https://telegram.me/buratha