يمتاز أئمة الهدى من أهل بيت النبوة والأمامة عليهم السلام بالعلم والمعرفة والمكارم والاخلاق السامية التي خصهم الله سبحانه وتعالى دون غيرهم، فكانوا رواده وخزائنه وأنواره، أخذوه سالف عن سابق عن جدهم أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (ع) مدينة علم جدهم النبي الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم القائل:"العلم خزائن، ومفتاحها السؤال، فاسألوا رحمكم الله، فإنه يؤجر أربعة: السائل والمجيب، والمستمع، والمحب لهم"- المجازات النبوية للشريف الرضي ص 209.
فلو أخذت الأمة الاسلامية سيرة نبي الرحمة والمودة (ص) وأبنائه الأئمة المعصومين، بالعمل والتطبيق لحصلوا على أعظم مكسب في حقل التوجيه والأخلاق، ولسادوا الأمم ولأمتدوا بالاسلام السميح كل أرجاء المعمورة، ولحققوا الانتصارات العظيمة في مختلف القطاعات.
فمن أكنز وأعظم ما تركه الأئمة المعصومين (ص) للمسلمين وصاياهم الكثيرة، الحافلة بالتوجيه والأخلاق والحكم والمعارف والأدب، فلم يعرف التاريخ الإسلامي مثل هذه الوصايا لمن سبقهم أو تأخر عنهم من العلماء والحكماء والفلاسفة والمفكرين، وما ذلك إلاّ لحرصهم على توجيه المجتمع، وإصلاح الأمة، وبث الأخلاق بين الناس، وليس هذا بكثير عليهم، فهم المكلفون بعد الرسول الأكرم (ص) بنشر الاسلام المحمدي الأصيل، والمحافظة على سننه وشرائعه القيمة.
أن الغاية من جمع العلم والاخلاق في الدين الاسلامي الحنيف هو بذله لأهله وإشاعته بين الناس بهدف طرد الجهل والظلام حتى ينعم العباد والبلاد بالسعادة والكمال والحياة الآمنة، كما قالها الامام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام، الخامس من أنوار الهداية للبشرية والذي نعيش اليوم ذكرى ميلاده المبارك:"زكاة العلم أن تعلمه عباد الله" - أصول الكافي ج1 ص41.
فقد ولد الامام محمد الباقر (ع) يوم الجمعة أو الثلاثاء من غرة رجب المرجب (الأول من رجب)، وقيل الثالث من صفر سنة 57 للهجرة، وكان (ع) يشبه رسول الله (ص) لذا لقب بالشبيه. حيث أقام مع جده الامام الحسين عليه السلام حوالي ثلاث سنوات ونيف وشهد في نهايتها فاجعة كربلاء الدامية، وعاش مع أبيه الامام علي بن الحسين عليه السلام 34 سنة وعشرة أشهر أو 39 سنة وبعد أبيه 19 سنة وقيل 18 وذلك في أيام إمامته.
وقد أجتمعت فيه صفات ومزايا فريدة، فكان الامام الصادق (ع) يقول: "كان أبي كثير الذكر لقد كنت أمشي معه وأنه ليذكر الله (عز وجل) وأكل معه الطعام ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله عن ذكر الله سبحانه وتعالى... وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس".
وبدأت ولاية الامام الباقر (ع) وإمامته في عهد الوليد بن عبد الملك الأموي الذي شُغِلَ عن ال البيت (ع) طوال فترة حكمه بتصفية أسرة الحجاج بن يوسف التي كانت تمسك بزمام السلطة في عهد أخيه الوليد بن عبد الملك. ثم جاء من بعده عمر بن عبد العزيز الذي اتّسمت مواقفه ببعض الإنصاف تجاه أهل البيت(ع)، ثم جاء من بعده يزيد بن عبد الملك الذي انصرف إلى حياة الترف واللهو والمجون.
وكانت علاقة الإمام الباقر (ع) بالخلفاء علاقة رصد وتوجيه وإرشاد كما كانت علاقة وصي الرسول (ص) دون فصل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) بخلفاء عصره. وكثرت الرسائل المتبادلة بين الإمام (ع) وعمر بن عبد العزيز حيث ضمّنها توجيهات سياسية وإرشادات هامة.
كما نجد عبد الملك بن مروان يستشير الامام (ع) في مسألة نقود الروم المتداولة بين المسلمين والتي كانوا يضغطون من خلالها على الخلافة، وذلك أن مشاحنة وقعت بين عبد الملك وملك الروم فهدده ملك الروم بأنه سوف يضرب على الدنانير سب رسول الله (ص) إذا هو لم يرضخ لأمره ويلبي طلباته. وبما أن النقود التي كان المسلمون يتعاملون بها كانت رومية فقد ضاق عبد الملك بهذا الأمر ذرعاً فاضطر أن يستشير الامام في ذلك، فأشار الامام (ع) عليه بطريقة عملية يصنع بها نقوداً إسلامية مما جعل المسلمين يستقلّون بنقدهم.
وقد استفاد الامام الباقر (ع) من هذا الانفراج السياسي استفادة كبيرة في ممارسة دوره الرسالي فاتّبع سياسة تعليمية وتربوية رائدة هادفة لمواجهة الأفكار المنحرفة التي تغلغلت مع اتّساع رقعة الفتوحات. والتصدي للأحاديث المدسوسة ومواكبة المستجدات واستنباط الحلول لها.. "وانهال عليه الناس يستفتونه عن المعضلات ويستفتونه أبواب المشكلات" وعمل الامام (ع) على تعزيز المدرسة العلمية والفكرية التي انطلقت في حياة والده السجاد (ع) فأصبحت تشدّ إليها الرحال من كل أقطار العالم الإسلامي حتى قال أحدهم: "لم يظهر من أحد من ولد الحسن والحسين (ع) في علم الدين واثار السنة وعلم القرون وفنون الاداب ما ظهر عن أبي جعفر الباقر .
وتخرج من هذه المدرسة العظيمة كوكبة من أهل الفضل والعلم كزرارة بن أعين ومحمد بن مسلم الثقفي وجابر بن يزيد الجعفي.. وبذلك شكّلت مرحلة إمامة الباقر (ع) إطاراً جديداً لإدارة الصراع مع رموز الانحراف الفكري والعقائدي التي كادت تطمس معالم الدين الاسلامي آنذاك.
فهو عليه السلام مجمع الفضائل، ومنتهى المكارم، سبق الدنيا بعلمه، وامتلأت الكتب بحديثه، ولا غرو في أن يكون كذلك ، فها هي كتب الفقه، والحديث، والتفسير، والأخلاق، مستفيضة بأحاديثه، مملوءة بآرائه، فقد روى عنه رجل واحد من أصحابه - محمد بن مسلم - ثلاثين ألف حديث، وجابر الجعفي سبعين ألف حديث، وليست هذه بميزة له عليه السلام على بقية الأئمة، فعقيدتنا أنهم صلوات الله عليهم نور واحد ومتساوون في العلم، وسواسية في الفضل، فهم يغترفون من منهل واحد: كتاب الله وسنة رسوله، وما أودع الله تعالى فيهم من العلم اللدني يصفتهم أئمة الحق، وساسة الخلق، وورثة الرسول الأعظم (ص).
https://telegram.me/buratha