سعى بنو أمية وبنو العباس طيلة حكوماتهم الظالمة والطاغية وعلى مدى عدة قرون الى حرف الأمة عن مسار الاسلام المحمدي الاصيل الذي جاء به الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وبذلوا كل ما في وسعهم مستخدمين تحريف وتزوير الروايات والأحاديث النبوية وحتى بعض الآيات القرانية ، وعودتهم الى عهد الجاهلية والظلمة والخرافات والفتن كما هو الحال في عالمنا المعاصر على يد احفادهم من الحكام المستبدين والدكتاتوريين في البلاد الاسلامية.
ولا يمكن لأي كاتب أن يستوعب التراث العلمي الضخم لأئمة أهل البيت عليهم السّلام؛ اولئك الذين أودعهم الله سبحانه وتعالى علمه وحكمته وآتاهم ما لم يؤت أحداًَ من العالمين ، ومن ثم اوكل مهمة التصدي للخط الأموي المنحرف ومن بعده العباسي الى أهل بيت النبوة والامامة عليهم السلام أجمعين فكان يقوم كل امام من أئمة الهدى والرحمة (ع) بدوره في أحسن أوجهه وأتمه رغم الحصار والخناق والظلم ومحاولات الاغتيالات والاعتقالات التي كانوا عليهم السلام يتعرضون اليها من قبل فراعنة عصرهم ، ولكن أبوا إلا أن يتم نور الله ولو كره الكافرون .
ومن هذا المنطلق أخذ كل أمام عليه السلام دوره في ردع الفتن الانحرافية التي تظهر في زمانه وبدعم من السلطات الحاكمة كما هو الحال في زماننا الذي نشهد فيه اصدار الفتاوى الانحرافية والبعيدة كل البعد عن الاسلام من قبل وعاظ السلاطين من الوهابيين والسلفيين ، ولم يكن الامام علي بن محمد الهادي (ع) عاشر أنوار الهداية المحمدية والذي نعيش هذه الايام ذكرى استشهاده الأليم (3رجب المرجب) بمنأى عن هذا العبء الكبير فتصدى عليه السلام للكثير من الفرق الانحرافية وفي مقدمتها فتنة "الجبر والتفويض" الكبرى وذلك على عهد المأمون والمعتصم والواثق العباسي .
وتهدف هذه الفكرة الكلامية الانحرافية الى ايجاد الشرخ بين صفوف المسلمين الموحدة وزعزعة إيمانهم بالباري تعالى وحرفه عن الطريق المستقيم والصواب وهي نظرية قائمة على "محورين" متضادين حول أبعاد الشخصية الانسانية وأفعاله وهي:-
1- الانسان مسيّر لا مخيّر، مجبور في أفعاله وليس بمختار ، والذين يقولون بهذا الوجه من النظرية الانحرافية يشددون على "أنَّ الله سبحانه وتعالى أجبر عباده على أعمالهم، فليس للعباد اختيارٌ في ما يطيعون أو يعصون، فالطاعة من الله والمعصية منه".
2- الانسان مخيّر في أفعاله لا مسيّر، مختار فيها وليس بمجبور، والذين يقولون بهذا الجانب من الفتنة يشددون على "أن الله تعالى فوّض الأمر إلى خلقه، فهو خلقهم وانعزل عنهم، أو فوّض الأمر إلى بعض خلقه، بمعنى أنَّ الله تعالى خلق الناس وجعل الأمر للأنبياء مثلاً، فلا يتدخّل في شؤون النّاس، ولكن تبقى قدرة الله وهيمنته وتدبيره للناس، بما لا يبعدهم عن رعايته وتدبيره وسلطته".
وقد تصدى لها الامام الهادي (ع) بكل علم ودراية وحنكة وذكاء مما شكل سداً منيعاً وحصناً حصيناً حول المسلمين وأبعدهم عن السقوط في هاوية الانحراف والتزوير عبر رسالته التي أرسلها الى اتباع هذا الخط الأموي – العباسي الأنحرافي والذين كانوا يقطنون خارج المدينة المنورة حسبما يروي التأريخ ذلك.
فأرسل الامام الهادي(ع) رسالةً مبسوطة من (15) صفحة شارحاً لهم حقائق الأمور، ومبيِّناً لهم بالدليل والمنطق من العقل والنقل بطلان الجبر والتفويض، ودعاهم الى الاستقامة في الرسالة المحمدية الأصيلة خطِّ الله سبحانه وتعالى ، فيقول في رسالته (ع) والتي نقتطف منها:-
"من عليِّ بن محمد، سلامٌ عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته، فإنَّه ورد عليَّ كتابكم، وفهمتُ ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر، ومقالة مَنْ يقول منكم بالجبر ومَنْ يقول بالتفويض، وتفرُّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم، وفهمت ذلك كلَّه..
فأمَّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ، فهو قولُ من زعم أنَّ الله جلَّ وعزَّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول، فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردَّ عليه قوله: {ولا يظلمُ ربُّك أحداً}[الكهف:49] وقوله: {ذلك بما قدّمَتْ يداكَ وأنَّ الله ليس بظلاّمٍ للعبيد}[الحج:10] وقوله: {إنَّ الله لا يظلمُ النّاسَ شيئاً ولكنَّ الناسَ أنفُسَهُم يظلمون}[يونس: 44] مع آي كثيرة في ذكر هذا. فمن زعم أنَّه مجبرٌ على المعاصي، فقد أحال بذنبه على الله وقد ظلمه في عقوبته، ومن ظلم اللهَ فقد كذّب كتابَه، ومن كذّب كتابه فقد لزم الكفر بإجماع الأمّة.. وأمَّا التفويض الذي أبطله الصادق(ع) وأخطأ مَنْ دان به وتقلّده فهو قول القائل: إنَّ الله جلَّ ذكره فوّض إلى العباد اختياراً أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلامٌ دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقته، وإلى هذا ذهبت الأئمة المهتدية من عترة الرسول(ص)، فإنَّهم قالوا: لو فوّض إليهم على جهة الإهمال، لكان لازماً له رضى ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب، ولم يكن عليهم في ما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعاً.. فمن زعم أنَّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده، فقد أثبت عليه العجز وأوجب عليه قبول كلِّ ما عملوا من خيرٍ أو شرٍّ، وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، لعلّة ما زعم أنَّ الله فوّضها إليه، لأنَّ المفوَّض إليه يعمل بمشيئته، فإن شاء الكفر أو الإيمان كان غير مردود عليه ولا محظور، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى، فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: {أفتؤمنونَ ببعض الكتاب وتكفُرونَ ببعضٍ فما جزاءُ مَن يفعلُ ذلك منكم إلاَّ خِزيٌ في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أشدِّ العذاب وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعملون}[البقرة:85]، تعالى عما يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً".
https://telegram.me/buratha