المتصفحون للتاريخ الذين يمعنون النظر فيه بدقة يجدون أن الأحداث الكبيرة التي غيرت مجراه هي تلك التي صنعها الرجال الأتقياء المؤمنين الأوفياء الذين قدموا كل غالٍ ونفيس على طبق إخلاصهم قرباناً للخالق المتعال، حيث يحملون على عاتقهم مسؤولية رسالة السماء الكبرى فكان لابد لهم من النهوض والتصدي للإنحراف والتزييف والتزوير ويقولون كلمتهم الحق بكل شجاعة أمام الحاكم الطاغية الديكتاتوري للحد من إنحرافه وظلمه وإنقاذاً للأمة والبشرية جمعاء من الضلالة التي أرغموا للعيش فيها، تلك التي يكون الاستبداد شرعة الحاكم الظالم والطبقية ميزة الحكم الديكتاتوري والفساد الإداري وتبديل السنن والأحكام الإلهية وفق هوى الحاكم الفاسق الظالم، حيث تنعدم أوجه الحياة والتاريخ يكون زيفاً.. من هنا كانت الانطلاقة المباركة لسيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام.
أحداث كربلاء الطف عام 61 للهجرة ماهي إلا ثورة من أجل انتصار الإسلام المحمدي الأصيل على إسلام أبناء الطلقاء المزيف والمنحرف وإرهابهم التكفيري، وحركة عاشوراء كانت في حقيقتها حركة إصلاحية شاملة بدأت من ذات الإنسان لتتحرك في المجتمع والمؤسسة والدولة، حيث قالها الامام الحسين عليه السلام " إنّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلا بَطَرًا، وَلا مُفْسِدًا وَلا ظالِمًا، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأَبي عَلِيّ بْنِ أَبي طالِب"، فجعل الله سبحانه وتعالى أفئدة الناس تهوي إليه ويجتمع المؤمنون حوله إكراماً للقرابين الثمينة التي قدمها في سبيل إعلاء كلمة الحق وهو القائل "إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى" صرخة صادحة في كل العصور والدهور يتمسك بها الأحرار رافعين نداء "لبيك ياحسين" في تقديمهم التضحيات الجسام خدمة للدين ومتصدين لإرهاب البترودولار السفياني النفاقي الوضيع الذي يستهدف أمة خاتم المرسلين (ص).
من يراجع الفترة التاريخية التي حكم فيها معاوية بن أبي سفيان بن هند آكلة الأكباد ذات الراية الحمراء، يجد أنها فترة مسخ للقيم الاسلامية وانقلاب على الموازين السماوية، هيأ الأرضية لأبنه يزيد الفاسق الفاجر شارب الخمر مداعب القردة قاتل النفس المحرمة ليمضي في خلافة أبيه ويجعل الحكم حكراًعلى آل أمية بقيمهم القبلية الجاهلية المسخة التي نشهدها في تاريخنا المعاصر يحكم بها أحفاد أمية الطلقاء بأنظمتهم الموروثية واضعين سيف التكفير والفرقة والنفاق على أعناق المسلمين.. وجاء يزيد العهر وزاد على أبيه معاوية في حقده على آل بيت الرسالة والامامة الذين نصب الله دون غيرهم أئمة هداة للبشرية، وأمعن في محاربته للإسلام وبكل علانية حتى ذهب به المطاف الى هدم الكعبة وقتل الصحابة وهتك أعراض المسلمين ومن قبلهم أمره بقتل ريحانة خاتم المرسلين (ص) وسيد شباب أهل الجنة الامام الحسين بن علي ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة المشرفة!! .
فشلت مساعي الشجرة الخبيثة ينبوع الجاهلية والالحاد والشرك والفرقة والنفاق والشقاق والحقد والعداء الدفين لخاتم المرسلين (ص) وأهل بيته الميامين (ع) طيلة الـ14 قرن الماضي، بكل تكاتفها وتوحدها وقوتها وخططهم الجهنمية الماكرة والخدع الوضيعة والدنيئة بمؤسساتها الدينية الوهابية - السلفية وفتاواها التكفيرية، واعلامها السلطوي التزييف في محو رسالة السماء الوحدانية كما فشلت في صدر الاسلام بدسائس التحالف اليهودي - الجاهلي "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ.." الصف: 8؛ واليوم صرخة "لبيك يا حسين" هي تجسيد بكل ما للكلمة من معنى لصرخة العقيلة الهاشمية زينب الكبرى لاتزال تدوي في سماء المعمورة مستحقرة طاغية العصر يزيد منتهك المقدسات الاسلامية وهو في مجلس جبروته وقصر إجرامه بالشام أمام كبار قادته وحاشيته وحلفائه مخاطبة إياه "يا يزيد .. كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين" .
بالأمس، وفي العشرين من شهر صفر عام 61 دخلت زينب الكبرى عقيلة الهاشميين أرض كربلاء وحيدة مكسورة الخاطر، محدودبة الظهر، شاحبة اللون لا يعرفها حتى أخيها محمد بن الحنفية لما دار عليها من ويلات ومصائب جمة منذ اليوم العاشر من محرم ذلك العام وحتى لحظة وقوفها على قبور أخوتها وأبنائها وأعزائها في يوم الأربعين وهي عائدة من بلاد الشام آه من الشام، وبمعية أبن أخيها الأمام علي بن الحسين (عليهما السلام) الذخر الباقي ومازال مكان الجامعة على رقبته يقطر دماً ويلوح من بعيد كما هي آثار السلاسل في معصميه وقدميه تقطر دماً؛ ومعها النساء الثاكلات والأطفال اليتامى وآثار سياط بني أمية وأنصارهم وأعوانهم على أجسادهم كلما بكوا لشربة ماء أو فزع من فقدان الأب، بإستثناء رقية (س) بنت أبي الأحرار (ع) التي دفنتها في خربات الشام وهي في السن الثالثة من عمرها أستشهدت لشدة جراح سياط المجرمين والطغاة وهي تحتضن رأس أبيها سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول المحبة والمودة محمد المصطفى (ص).
اليوم، حشود الملايين التي تجاوزت العشرين من أنصار ومحبي وشيعة أهل البيت عليهم السلام يزحفون سيراً على الأقدام مواساة لسيدتهم زينب الكبرى (ع) نحو قبلة الأحرار والأباة والفداء، تلك المراقد الطاهرة المتصلة بنور الهداية بين الأرض والسماء مرقد الامام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السلام وسائر بني هاشم والأنصار سلام الله عليهم أجمعين؛ وهم يهتفون "لبيك يا حسين" و"ياليتنا كنا معكم" و"هيهات منا الذلة" متمسكين بنهج الحرية والاستقلال والسلام والمودة والمحبة، رافضين الركوع لغير الله سبحانه وتعالى مهما كلفهم ذلك من أثمان غالية دفعوها بأرواحهم وأجسادهم طيلة القرون الماضية منذ انقلاب أبناء الطلقاء وذوات الرايات الحمر جيلاً بعد جيل دون خوف أو فزع أو وجل، رافعين رؤوسهم وهم يكررون قوله (ع) "الموت لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة" فأخافوا طغاة عصرهم حتى يومنا هذا .
النظام الأموي ذلك الإرهاب التكفيري الإجرامي عاد من جديد يحكم ربوع العالم الاسلامي في السعودية والامارات والبحرين والأردن ومصر وتركيا و..، يدعمون ويمولون الجماعات الارهابية المسلحة مثل "داعش" و"النصرة" و"احرار الشام" و"جيش الفتح" و"الجيش الحر" و"طالبان" و"القاعدة" و"بوكو حرام"، لتعيث في الأرض فساداً وتستهدف البشر والحجر وتقتل النفوس البريئة وتحرق الأخضر واليابسة، لا ينجو من إجرامهم لا الطفل الصغير ولا الشيخ الكبير، مستهدفين شيعة الرسول (ص) وآله وأنصارهم ومحبيهم بكل وسائل الاجرام معيدين للذاكرة صورة فاجعة ومجزرة عاشوراء الدامية لتتسع أرض كربلاء ويمتد يوم عاشوراء على طول السنين والعصور والبلاد من العراق وحتى الشام ومن اليمن حتى البحرين ومن أفغانستان وباكستان حتى مصر ونيجيريا، بحقد أحفاد وأنصار وأتباع أمية وأبي سفيان وهند آكلة الأكباد ونظيراتها صاحبات الرايات؛ مجسداً الصراع بين الدين والكفر وبين الحق والباطل كما كان على عهد الجاهلية بين أولو الشرف من العرب كبني هاشم ومخزوم وزهرة وغيرهم وبين من أشتهر بالعهر والزنا مثل بني عبد شمس وسلول وهذيل والذي أمتد هذا الصراع الى مابعد دخول كل العرب الاسلام .
زيارة الأربعين تمثل الطرف الآخر لحبل الله المتين ثورة عاشوراء العز والتضحية والفداء، وهي ايضاً دعوة متجددة للإصلاح وانتصار الدم على السيف، فكانت وما زالت مدرسة عظيمة يتخرّج منها شهداء ومقاومين أحرار صامدين شامخين كالجبال العاتية لايخافون في الله لومة لائم ولا تهزهم العواصف ولا ترعدهم تهديدات أعداء البشرية مهما تعاظم إجرامهم، اولئك الذين يمثلون اليوم الحشد الشعبي في العراق، والدفاع الوطني في سوريا، وقوى المقاومة الاسلامية في لبنان والبعض في فلسطين وانصار الله في اليمن كأنموذج حي في الدفاع عن القيم الانسانية والرسالة المحمدية وعزة وكرامة الأمة .
يتصور البعض من أصحاب النفوس الضعيفة والوضيعة أن احياء ذكرى الأربعين الحسيني انما هو إحياءٌ وتذكير انساني بعمق هذه الفاجعة الأليمة وطلباً للثأر. لكن حقيقة الأمر هي إحياءٌ للآمر السماوي في صرخة الامام الحسين عليه السلام التي صدحت الى عنان السماء برفض كل أنواع الظلم والجبروت والطغيان والفرعنة والعصيان الألهي والانحراف الفكري الذي بناه بنو أمية مقارعة منهم للاسلام المحمدي الأصيل الذي جاء لهداية البشرية وأخراجهم من الظلمات الى النور والتي لا زالت تدوي في ربوع المعمورة لتذكر الجميع بان نهضته الدامية جاءت ل"طلب الاصلاح في أمة جده" والعودة الى الدعوة الربانية بالعدالة والمساواة والعبودية للواحد القهار، الى جانب تذكير الضمير الانساني بعمق الفاجعة والكارثة التي ألمت بأهل البيت عليهم السلام وأنصارهم وأعوانهم في ظهر عاشوراء الدامي.
https://telegram.me/buratha