كانت البشرية قبل ولادة الرسولِ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تعيش فترة عصيبة من تاريخها، ضلَّتْ فيها طريق الْهدى والرشاد، وانحرفَت عنِ الفطرة الالهية والمنهجِ الربانِي، وجاء مولده الشريف ليكون الرحمةَ المهداةَ والسراج المنير للبشرية قاطبة، ليجعل الله سبحانه وتعالى علَى يديه سعادة وخروج البشرية من الظلمات الَى النورِ، ونشر الخير والفضيلة، فكان مولده صلى الله عليه وآله وسلم إيذاناً باندحار الباطلِ والشر، واعلاماً بظهور الحق والخيرِ والحدث الذِي سيُغَيِّرُ مَجْرَى التاريخِ الذي عاد اليه أصحاب السطوة والفرعنة وهواة الضلالة والشرك والوثنية وعباد الدرهم والدينار وأئمة التحريف والتزييف والتزوير ما أن فارقت روحه الطاهرة (ص) هذه الدنيا الفانية وبدأت مصائب أهل بيته عليهم السلام وشيعته وأنصاره وأعوانه تدب منذ "رزية الخميس" وحتى يومنا هذا.
كان ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الكون، وسخر كل ما فيه لخدمة الانسان، وكأن هذا الكون كان يرتقب قدومه منذ أمد بعيد.. وكانت مكة والعالم بأسره على موعد مع حدث عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية جمعاء وحياته، وسيظل يشرق بنوره على الكون، ويرشد بهداه الحائرين، حتى قيام الساعة؛ كان مولده المبارك نذيراً بزوال دولة الشرك، ونشر الحق والخير والعدل بين الناس، ورفع الظلم والبغي والعدوان. بعد أن كانت الدنيا تموج بألوان الشرك والوثنية وتمتلئ بطواغيت الكفر والطغيان، وعندما أشرق مولد سيد الخلق كانت له إرهاصات عجيبة، وصاحبته ظواهر غريبة وأحداث فريدة لم يشهد التاريخ قبلها ولا بعدها من تلك الآثار شيء يذكر.
"إن الفكرة الدينية الإسلامية، أحدثت رقيًا كبيرًا جدًا في العالم، وخلّصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره حول الهياكل بين يدي الكهان. ولقد توصل محمد ـ بمحوه كل صورة في المعابد وإبطاله كل تمثيل لذات الخالق المطلق ـ إلى تخليص الفكر الإنساني من عقيدة التجسيد الغليظة" – المستشرق الأميركي "المستر سنكس".
ففي 17 من ربيع الأول من عام الفيل (571) تشرف الكون بميلاد سيد الخلق وخاتم المرسلين محمد (ص)، ذلك العام الذي كتب بالتأريخ بلون ذهبي مشرق بعدما اندحر "أبرهة" وجيشه الجرار الذي جاء به لمكة بغية هدم الكعبة وكانت تلك أول علامة وخصيصة خصها البارئ المتعال لميلاد الصادق الأمين (ص)؛ ثم إرتجاس أيوان كسرى وسقوط أربعة عشرة شرفة منه، وخمدت "نار فارس" بعد عمر أكثر من ألف عام، كما وغاضت بحيرة "ساوة" - جاء في كتاب "هواتف الجان" حيث قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدثنا علي بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران - من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه (ج/ص: 2/ 328) .
الاصرار المتواصل في الاساءة لشخصية نبي الرحمة حبيب رب العالمين محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن وليد الصدفة أو جاء بدفع دافع أو أنه بدأ في العقود الأخيرة بل له جذوره العميقة والطويلة وتم التخطيط له من قبل البعثة النبوية أو حتى قبل ولادة الرسول الأكرم (ص) في عام الفيل 570 ميلادي بمئات السنين ولهذا السبب تم صلب سيدنا المسيح عليه السلام من قبل اليهود لأنه جاء ببشرى ولادة ورسالة خاتم المرسلين لانقاذ البشرية من الضلالة والجهالة والظلام والشرك والعبودية لغير الله سبحانه وتعالى.ويسعى بني صهيون ومن يدور في فلكهم من قوى الشر والجهالة والضلالة والاستعمار والاستحمار ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا بين الحين والآخر الى الاساءة بأي صورة من الصور لخير خلق الله وسيدهم بتلفيق الروايات والقصص عنه حتى جاءت ولادته المباركة والميمونة ومن ثم حل مبعثه المنقذ للبشرية ليكون دافعاً وحافزاً جديداً لاستهدافه (ص) ولكن بمساعدة عرب الجاهلية والشرك والفرعنة والطغيان وتلتقي معها بسهام حقدها خوفاً على سلطتها وسطوتها على الناس. وقد استعرضت في مقال سابق لي تحت عنوان "استهداف نبي الرحمة من الراهب بحيرى حتى براءة المسلمين"، وبايجاز الافعال الشنيعة والماكرة التي أقدم عليها محور الشر الصهيوني - العربي لاستهداف رسول العزة والكرامة محمد (ص) وكيف انهم لم ولن يتوانوا في فعل كل مسيء وماكر في هذا المجال منذ بدأ الرسالة النبوية الشريفة وحتى هذه الايام .
يقول المؤرخ الأميركي الشهير "مايكل هارت" في كتابه "أعظم مائة شخص في التاريخ".. "ان اختياري لمحمداً، ليكون الأول بين أهم وأعظم رجال التأريخ ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التأريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين : الديني والدنيوي . ولأنه أقام الى جانب دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً، وحد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كلَ أسس حياتها، ورسم أمور دنياها ، ووضعها في موضع الانطلاق الى العالم. أيضاً في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية ، وأتمهما" .
عادت الجاهلية والظلمة والقبلية والوثنية لتتسلط من جديد على الأمة العربية كما كانت قبل بزوغ شمس الهداية الربانية لترفع من مستواها الفكري والاجتماعي والحضاري بعد أن كان الجهل والأمية والخرافة تسيطر عليها وتعبث في عقولها ومعتقداتها،وهو ما جاء في وصف الله سبحانه وتعالى رسالة نبيه الارم (ص) بقوله:" قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" سورة المائدة الاية 15و16؛ إلا قليلاً منهم الذين كانوا على دين إبراهيم وموسى والمسيح عليهم وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام حيث كما صفهم القرآن الكريم " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" - سورة آل عمران الآية 110.
لقد أختلق أعداء الصادق الأمين محمد (ص) ولسبب حقدهم وكرهم الشديد لأهل بيت النبوة والامامة عليهم السلام، مختلف روايات الزيف والتحريف والتزييف عن واقع الاسلام المحمدي الأصيل حتى أنهم تمادوا باعلانهم حرمة الاحتفال بذكرى مولد سيد البشرية وخاتم المرسلين الجبيب محمد المصطفى (ص) نبي الرحمة والمودة والرأفة الألهية والسراج المنير، في وقت تؤكد الحقيقة الدينية أنه ليس "بدعة محرفة دخلت الاسلام"، كما يدعي أحفاد وشيعة الطلقاء وذوات الرايات خوفاً من وقوف الأمة على الحقائق الملوثة بزيف فتاواهم فينقلب السحر على الساحر وتشرق شمس الحرية في ربوع بلداننا؛ بل ان الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو تذكير بقيم الخير والفضيلة وتعظيم وإظهار الحب والود لخاتم الرسل (ص)، ومن أبرز مصاديق "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب"؛ وتذكير بقيم الخير والفضيلة وسنة حسنة كما قالها الشهيد السعيد الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وتأكيد على أهمية الوحدة ونبذ التفرقة والاهتمام بتربية النشء والحفاظ عليهم في أجواء الفتنة والإغراءات العاصفة في الأمة الاسلامية .
يقول المفكر الفيلسوف الفرنسي "ألفونس دو لامارتن".. النبي محمد (ص) هو النبي الفيلسوف المحارب الخطيب المشرع قاهر الاهواء وبالنظر الى كل مقاييس العظمة البشرية أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد (ص)؟؟؛ كما يرى الأديب البريطاني الشهير "هربرت جورج ويلز".. في النبي محمد (ص) أعظم من أقام دولة للعدل والتسامح، ولضيق المقال لا يسعنا التطرق لكل ما قيل في هذه الشخصية العبقرية الكبيرة ولكن نتساءل هنا ماذا فعل الصحابة مع الرسول الأعظم (ص) في حياته وبعد مماته وكيف أنهم نكثوا كل ما قال وأوصى به وماذا فعلوا بريحانته الوحيدة سلام الله عليها وبذريته عليهم السلام ووصيه الأوحد بلا فصل الامام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام، من بعده.
کما يصادف يوم 17 ربيع الأول ذکرى ولادة الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام المبارك السادس من أئمة أنوار الهدى والتقى في المدينة المنورة من سنة 83 من الهجرة، حيث شكل مع آبائه الطاهرين الميامين حلقات متواصلة مترابطة متفاعلة تتصل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يشکلون مدرسة وتجربة حية تجسد الاسلام الاصيل وتطبق فيها احکامه وتحفظ مبادءه .
الائمة من أهل البيت عليهم السلام ورثوا العلم إبناً عن أب عن جد حتى ينتهوا الى أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قال رسول الله (ص) فيه: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وهو بذلك ينتهي الى النبي الأكرم (ص) وهو الوارث لعلومه ومعارفه وحكومته .
https://telegram.me/buratha