محمّد صادق الهاشمي
إنّ النبيّ داوود من أعاظم أنبياء بني إسرائيل، وقد ذُكر في القرآن الكريم (16) مرّة، بكلماتِ ثناءِ ومدحِ، منها قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} ، وهو كتابه السماوي ّ. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ... }، أوّبي : رددي ورجعي، فإنّه كان إذا سبّح الله تردد معه الجبالُ والطيورُ. وأعطاه الله قوّةً وشجاعةً في الجهاد، {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}، وجالوت: رجل شجاع، يحسب له ألف حسابٍ. وقد جعل الله الحديد الصلب يُطوى بين يدي داود، فقال: {... وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}، والسابغاتُ: جمعُ سابغةٍ، و هي الدرع الواسعة، و السرد نسج الدرع، أي اجعلها متناسقةً في حلقاتها، وعن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: أوحى الله إلى داود (ع): أنّك نعم العبدُ لو لا أنّك تأكل من بيت المال، ولا تعمل بيدك شيئاً، فبكى داود (ع) أربعين صباحاً فأوحى الله إلى الحديد أنْ لِنْ لعبدي داود، فألانَ اللهُ له الحديد فكان يعمل كلّ يوم درعاً فيبيعها بألف درهم... واستغنى عن بيت المال، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} .
لكن رغم هذا الذكر القرآني له بكلّ صفات الخير لم يسلم داود (ع) من أصحاب الخرافات، والأيادي اليهودية ، فدسّت له تهمّةً فاضحةً كبيرةً، لا تليقُ برجلٍ محترمٍٍ من عامّة الناس، فكيف بنبيّ من هذا المستوى الذي ذكرته الآيات المتقدّمة!!.
فقالوا : إنّ قوله تعالى: { وهل أتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحرابَ * إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخفْ خصمان بغى بعضنا على بعضٍ فاحكم بيننا بالحقّ ولا تشططْ واهدنا إلى سواء الصراط * إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض...} قالوا: قد نزلت هذه الآيات تنبيهاً على معصيةٍ ارتكبها داود، إذْ أنّ داود كان يطارد عصفوراً أعجبه، وما زال العصفور يطيرُ من مكانٍ إلى مكانٍ، حتّى ساقة على سور بيتٍ، فتسوّر عليه داود، فرأى امرأة في غايةٍ من الجمال والحسن في فناء دارِها، فافتتن بها، وسألها: أأنت متزوّجةٌ؟ فقالت: نعم ، وزوجي «أوريا» مسافرٌ في سرايا الجهاد والقتال في طاعة الله، فرجع داود وأصدر أمراً أنْ يوضع زوجها في الخطوط الأمامية للقتال؛ ليقتل، وبالفعل استشهد زوجها، فتزوّج داود بزوجته بعد عدّة الوفاة.
وبعد فعلته هذه جلس في محرابه يتعبّد ، فأرسل الله له من مثّل له فعلته الشنيعة، إذ تسوّر شخصان عليه المحراب، أي دخلا من السور ، ولم يدخلا من الباب ، وقال له أحدهما: إنّ هذا أخي له (99) نعجة، ولي نعجة واحدة، في كناية عن: أنْ يا داود لك من الزوجات (99) زوجةً ، ولأخيك المجاهد على جبهات القتال زوجةً واحدةً، ألم تكن ظالماً بضمّ زوجة أخيك إلى زوجاتك؟! ففهمها داود أنّه هو المقصود بكلّ ذلك، فعرف داود أنّ هذين الرجلين هما ملكان، أرسلهما الله لتوبيخه وتأديبه.
أورد المعنى الصنعاني، وهو من أقدم مفسّري العامّة (تـ : 211 هـ)، والطبريّ (تـ: 310 هـ) ، والطبرانيّ (تـ : 360 هـ )، وابن الجوزي (تـ : 597 هـ) والسيوطي ( تـ : 911 هـ ). وأورده من أصحابنا علي بن إبراهيم القمّي، وتبعه على ذلك جلُّ مَنْ يأخذ بالروايات على عواهنها، ويعتبر كلّ رواية عليها اسم إمام فهي حجّة. وهذا التفسير كفرٌ في حقّ نبيّ امتدحه الله وأثنى عليه ثناء كبيرا.
والصحيح في التفسير الذي يساعد عليه ظواهر القرآن، أنّ هناك قضيتين:
الأولى: إنّ الله تعالى قد جعل داود حاكماً ، فقال تعالى: { {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، فأراد الله أنْ يعلّمه أصول القضاء، فأرسل له هذين الرجلين، وأهمّ أصلٍ في القضاء : أنّ القاضي لا يصحّ له أنْ ينطق بالحكم قبل السماع من كلا الطرفين، فكان ينبغي لداود أنْ لا يصدر الحكم من خلال السماع من طرفٍ واحدٍ، فعلّمه أنّ الحكم بقوله: « لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه» حكم خاطئ، لأنّه لم يعطِ فرصةً للطرف الآخر، وقد فهمها داود.
الثانية: يبدو أنّ داود تزوّج زوجة الشهيد المقاتل (أُوريا) تكريماً للشّهادة، لا بالشكل الذي صوّره المشعبذون ممن يدّعون أنّهم مفسّرون، فقد قيل للإمام الرضا (ع): يا ابن رسول اللَّه فما قصّته مع أُوريا؟ فقال: إنّ المرأة في أيّام داود (ع) كانت إذا مات بعلُها أو قُتل لا تتزوّج بعده أبداً في عرف بني إسرائيل، فأوّلُ من أباح اللَّه تعالى ان يتزوّج بامرأةٍ قُتل بعلها داود (ع)، فتزوّج بامرأة أوريا لمّا قتل و انقضت عدّتها، فذلك الذي شقّ على الناس [تحمّله فنسجوا الحكاية المذكور، فهو (ع): إنّما أراد أن يبيّن حكماً شرعيّا، أنّ المرأة إذا مات زوجها لا تحرم على غيره، نظير زواج رسول الله بزوجة زيدٍ ، في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} .
وأهل الدسّ والتحريف والإسرائيليات حاولوا أن يخلطوا بين قضية النعاج، وقضية زواجه من هذه المرأة، فجعلوا القضية الأولى تمثيلية للقضية الخيانية الثانية، ليصوغوا منهما نسيجا مشوِها لعصمة هذا النبيّ؛ لأنّ اليهود وكلّ أعداء الدين لم يستطيعوا أن يتلاعبوا بنفس القران، فتلاعبوا في تفسيره.
الحمدُ لله الذي هدانا للحقّ، ولم تزغ بنا - بفضل جهاد أهل البيت (ع) - الأهواء إلى القدح في تقوى وعصمة الأنبياء.
27 / 4 / 2020م ، الموافق 3 /رمضان / 1441هـ .
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha