محمّد صادق الهاشميّ
أنّ يوسف كان نبيّاً منذ أنْ بلغ سنّ التكليف، على ما يستفاد من قوله تعالى: {ولمّا بلغ أشده آتيناه حكما وعلما}، والمراد بالحكم الذي تتحدّث عنه الآية هو حكمُ الله الواقعيّ في كلّ أمرٍ يرتبط بالدين. وأمّا العلم فهو الانكشاف التامّ الذي لا يخالطه جهلٌ، ولا هوىً نفسانيٌّ، ولا تسويلٌ شيطانيٌّ.
والشبهةُ التي تثار في عصمته تبدأ من قوله تعالى: {وراودته الّتي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب، وقالت هيت لك، قال: معاذ اللّه، إنّه ربّي أحسن مثواي...}، ثمّ قالت الآيةُ: { ولقد همّت به و هم بها}. وعن كثيرٍ من مفسّري العامّة قولهم : « جلس منها مجلس الرجل من امرأته»، فقد أورده الصنعاني ( تـ : 211 هـ)، والطبريّ ( تـ : 310 هـ)، والطبرانيّ (تـ : 360 هـ)، وابن الجوزي ( تـ : 597 هـ)، والسيوطيّ (تـ : 911 هـ)، ثمّ تسرّب إلى كتب الشيعة كالعيّاشيّ (تـ : 320 هـ) ، منسوباً إلى الإمام الصادق (ع). فكيف ينسجم هذا مع القول بعصمته؟!!
أقول: إنّ التي راودته هي امرأة عزيز مصر، (زوجةُ أعلى منصبٍ في دولة الفراعنة) ، وقد وصّاها العزيز بيوسف أن تكرم مثواه، وتهتمّ به، ولا تساويه كباقي الرقيق، وقد بدأ بلاء يوسف من نعمة الجمال التي حباه الله بها، حتّى إذا بلغ الحلم، واستوى رجلاً، لم تملك إمرأةُ العزيز نفسها دون أن تقع في عشقه، فذلّت نفسَها لعبدٍ من عبيدها، وهي على ما لها الجاه والسلطة لكونها ملكة مصر التي لا يُردُّ لها أمرٌ، ولا يثني قولٌ. لقد غرقت في حبّ يوسف، وتولهت في غرامه، واشتغلت به عن كلّ شيء في دنياها، فلا همّ لها إلّا يوسف، {قد شغفها حبّا}، حتّى خلت به يوماً، وهو في بيتها، وقد غلّقت الأبواب فلم يبق فيه إلّا هي ويوسف، وكانت لا تشكّ في أنّ يوسف سيطيعها في أمرها؛ لما كانت تراه رقّاً ليس له إلّا طاعة موالي.
يوسف ذلك الفتى الذي كان في عزّ أيام مراهقته، وكلّه حيويّة وقوّة، مع فتاة تائقة في غرامها، اجتمعا في بيتٍ خالٍ، وقد أوصدت كلّ أبوابه، وراودته، قائلةً : قد هيّأتُ لك نفسي، وأوصدتً لك الأبواب، ذللتُ كلّ الموانع أمامك.
فما كان جوابه إلّا أنْ قال: «مَعاذَ اللَّهِ» ، ولم يملك جواباً غير هذا، قول موحّدٍ لله لا يملك غيره شيئاً يستعصم به في كلّ شدائده، فلم يجدْ شيئاً يخلّصه منها إلّا الهرب، {واستبقا الباب}، تجرّه إليها {وقدّت قميصه من دبرٍ}، فلمّا وجدت زوجها على الباب، ... {قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلّا أن يسجن أو عذابٌ أليمٌ} فما أسرع ما تبادرت إليها الحيلة ، وأصدرت عليه حكماً. لقد كانت نجاة يوسف من هذه المحنة أمراً خارقاً للعادة، وكانت واقعةً هي أشبه بالخيال منها باليقظة؛ لأنّه (ع) لما كان من عباد الله المُخْلَصين صرف عنه السوء والفحشاء بما رأى من برهان ربه.
وأمّا ظاهر آية { همّت به، وهمّ بها لولا أنْ رأى برهان ربّه}، فهو يدلّ بوضوحٍ على أنّ يوسفَ لم يصدر منه حتّى الهمّ والتفكير بالزنا ، فتقدير الآية: لولا أنْ رأى برهان ربّه لهمّ بها. (فلولا): حرف امتناع لوجود، مثل أنْ يقال: لولا سلاحك لقتلك العدوّ، فامتنع القتل لوجود السلاح، وهنا امتنع الهمّ والتفكير بالزنا لأنّ يوسف قد رأى برهان ربّه، وكلّ من حمل الآية على أنّ يوسف فكّر فيها كما يفكر الشابّ بغريزته القاهرة فهو بعيد كلّ البعد عن الصواب. فمعنى الآية: و الله لقد همّت به، والله لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها.
وأمّا ما هو البرهان الذي رآه يوسف فهو انكشاف قبح الزنا وخصوصاً إذا كان بإمراة ذات بعل محصنةٍ، وهذا العلم - الذي ذكرنا أوّل المقال أن الله آتاه علماً – هو سرّ وجود العصمة، و يراد بها اليقين، فإنّ المعصوم يرى المعصية على واقعها من القبح.
وللقوم في تفسير المراد من «البرهان» تخرّصات، منها ما قاله الغزالي: اختلفوا فيه- يعني في البرهان- ما هو؟ قال بعضهم: إنّ طائرا وقع على كتفه فقال في أذنه: لا تفعلْه فإنْ فعلت سقطت من درجة الأنبياء. وقيل: إنه رأى أباه يعقوب عاضّاً على إصبعه، وهو يقول: يا يوسف أما تراني. وقال الحسن البصري: رآها وهي تغطّي شيئاً، فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أغطّي وجه صنمٍ لنا؛ لئلا يراني، فقال يوسف: أنت تستحيين من جمادٍ لا يعقل فما لي لا أستحيي ممّن يراني ويعلم سرّي وعلانيتي. وكلّها وجوه لا شاهد عليها، ولم ينهض بها دليل.
1/ 5 / 2020م ، الموافق 7 / من شهر رمضان / 1441هـ .
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha