محمّد صادق الهاشميّ ||
في هذه الكلمات القرآنيّة سوف نتحدّثُ في جهاتٍ، آملين أنْ يسددنا المولى، ويأخذ بأيدينا لما هو الصحيح في فهمها.
(الجهة الأولى ) : ما المرادُ من قوله: {بالغيب}؟ الغيبُ: كلُّ شيء لم يقع تحت الحواسّ الخمسة، فلا عينٌ تراه، ولا أذنٌ تسمعه، ولا أنفٌ يشمه، ولا يدٌ تلمسه، ولا ذائقة تذوقه، وحينئذٍ يكون الغيبُ شاملاً لـ : لله جلّ شأنُه، وتوحيد اللَّه، و نبوّة الأنبياء جميعاً، والرجعة، والبعث والحساب، والجنّة، والنار، وسائر الأمور التي يلزمهم الإيمان بها ممّا لا يعرف بالمشاهدةِ والحسّّ، وإنّما يعرفونها بالأدلّة التي جعلها اللَّه لهم.
فالغيب له معنىً واحدٌ، وهو كلّ ما غاب عن الحسّ، فما ذكره السيّد السبزواري في «المواهب ج 1 ، ص 90، من أنّ الغيب يستعمل في القرآن بمعانٍ ليس صواباً؛ لأنّ كلّ ما ذكره من معانٍ يرجع إلى معنى واحدٍ هو ما ذكرته.
(الجهة الثانية): ما المرادُ بـ {يؤمنون}؟
الظاهر أنّ الإيمان هو التصديقُ الراسخ الذي لا يشوبه شكّ ولا يدخله ريبٌ، وبهذا يفترق (الإيمان) عن (الإسلام)، إذْ يكفي في تحقق الإسلام النطقُ بالشهادتين، بينما لا يكفي هذا في تحقق الإيمان، ما لم يصلْ إلى التصديق بالقضية إلى درجة الرسوخ؛ ولهذا الفرقِ أشارَ القرآنُ بقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلَكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنَا}. فقال تعالى {هدى للمتقين} ثمّ وصف المتقين بـ {الذين يؤمنون} ولم يقل : الذين يُسلمون.
هؤلاء المتقون قد بلغوا مرتبةً من التصديق يستحقّون أنْ يصفَهم فيها أمير المؤمنين (ع): «... وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تخويفٌ أصغوا إليها مسامعَ قلوبِهم وأبصارهم ، فاقشعرّتْ منها جلودُهم، ووجلت قلوبُهم ، فظنّوا أنّ صهيل جهنم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم ، وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تشويقٌ ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت أنفسُهم إليها شوقاً، وظنوا أنّها نصبَ أعينهم»، وقال (ع): « ... . عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ».
وعلى هذا فالمتقون في عالم الأمّة الإسلامية أشبه بالكبريت الأحمر، وكلّنا نعيش في مرحلة (الإسلام)، دون مرحلة (الإيمان والتقوى)، وكلّ الكوارث اتتنا من أنّ الإسلام ظاهراً، ولم تتشرّبْ فينا مفاهيمه، فكنّا سوءة على الإسلام.
(الجهة الثالثة): أنّ هناك احتمالاً آخر في قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب}، وهو أنْ نجعل كلمة {بالغيب} في محلّ حالٍ، والمعنى حينئذٍ: أنّ المنافق يُظهر الإيمان حينما يكون مع المؤمنين، ولكنّه حينما يغيب عنهم يكفر بهم، قال تعالى واصفاً لحالهم: {الذين إذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ}، بينما المؤمنون يؤمنون في السرِّ والغيب كإيمانهم بالعلنِ، على حدّ سواء.
(الجهة الرابعة): ما هو دور الإيمان بالغيب:
1. عالم الغيب يقابله عالم الحسّ، وهو ما يسمّى بعالم الشهود، والله يصف نفسه بأنه: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، والإيمان بالغيب هو أوّل صفة يذكرها الله للمتقين، وهي الحدُّ الفاصل بين الملحدين، وبين أهل الإيمان، فالملحدُ لا يفهم معنى (الصّدقة) - مثلا - على الفقراء بما يترتّب عليها من الآثار الأخروية، ولا يرى عقاباً غير القانون الوضعي يحاسبه لو قتل إنسانا بريئاً، ولذا نرى الدول الكافرة لا تجد حرجاً في تهجير شعب من وطنه، والتعويض عنهم بشذّاذ آفاق، بينما نجد الذين يؤمنون بالله وبما وراء الطبيعة يرون أنّ لكلّ حركةٍ من حركاتهم ثواباً وعقاباً مضافاً إلى ما في الدنيا، بينما يفقد المادّي القيم والأخلاقيات إلا بما يمليه عليه النظام والقانون، ويفقد الرقابة الذاتية.
2. لو قارنّا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أن: «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أنّ عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، وخالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزليّ وأبديّ. وأنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. ويعتقدون أنّ الإنسان ـ بما يحمله من روح إنسانية ـ يسمو بكثير على سائر الحيوانات. وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، ونافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.
بينما الإنسان المادي يعتقد أنّ عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه، وأنّ العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أيّ هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، وتندمج أجزاؤه مرّة اُخرى بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، وليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات!
27/ 5 / 2020م ، الموافق: يوم العيد :4/ شوال/ 1441 هـ
https://telegram.me/buratha