* د. جميل ظاهري
وقفت على قمم شموخ الاسلام المحمدي الاصيل اتصفح اوراق تاريخه الظافرة والخالدة واستقرئ سطور أسباب البعثة النبوية الشريفة وما آلت اليه حتى يومنا هذا لأجد الفرق الشاسع بين أسباب الولادة والاستمرارية والبقاء ليس بدافع الدين الحنيف وإنما جراء التحريف والتزوير الذي قام به الحكام الطغاة وفراعنة كل عصر لضمان مصالحهم الوجودية في مسند السلطة الظالمة والكافرة مستعينين بغطاء الدين السميح البريء من كل أعمالهم ونواياهم.
البشرية كانت قبل بعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السابع والعشرين من شهر رجب عام 13 قبل الهجرة المصادف يوم 10 أغسطس/آب عام 610 ميلادي، تعيش الضلالة والجهل والشرك والإلحاد التام، وتحتاج الى من ينقذها و ينتشلها مما هي فيه.. حيث كان الجهل فاشيا، والظلم جاثما، والفوضى ضاربة بأطنابها في كل مكان، حقوق مسلوبة، وأعراض منتهكة، وحياة بغير نظام ولا قانون، ولا تشريع ولا تنظيم، والعادات والأعراف القبلية كانت تسيطر على الأوضاع، حياة لا أمان فيها ولا استقرار ولا عدالة ولا مساواة، واعتداء القوي على الضعيف، كما هو الحال في عصرنا هذا حيث الاستعباد والظلم والطغيان والتمييز، كل ذلك من أجل السلطة والحكم بما تشتهيه النفس الامارة بالسوء.
البعثة النبوية المباركة هي رسالة الإنسانية وكرامتها ومنشورها الألهي ودين السماحة والأخوة والعدالة والمساواة وهدى الخالق المتعال المتواصل في كل زمان ومكان، بشموليته لكل شؤون الحياة الكريمة لتعيد للإنسان كرامته وعزته ومكانته العالية التي من أجلها خلقه الله سبحانه وتعالى.. حيث الرشد الإنساني واكتمال عناصر الوظيفة التي خلق من أجلها الإنسان للقيام بدور الخلافة على الأرض، إذ اختار الله سبحانه وتعالى أكمل خلقه للقيام بهذا الإعلان عبر ابلاغ البشرية آخر رسالات ربهم اليهم والرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه على آله وأصحابه الأخيار، ليقوم بأعباء هذه المسؤولية الكبرى ويؤدي الى الناس أكمل رسالات السماء، فكان لابد أن يكون النموذج البشري الكامل من حيث تمثله الكامل لهذه الرسالة والتجسيد التام لها ليكون نموذجا وقدوة للناس من جهة وحجة عليهم من جهة أخرى.
اليوم وبعد أن مضى أكثر من 14 قرنا و 4 عقود على البعثة النبوية المباركة نرى أن العنف والحروب تكتسح مرة اخرى العالم لأتفه الأسباب، فتزهق النفوس، ويعتقل الاحرار، وترمل النساء، وييتم الأطفال والدعوة قائمة للعودة الى عبادة الأصنام والأوثان السلطوية كما كان الحال على عهد الجاهلية حيث كان العرب يعيشون سلطة القبيلة وتسلط الأسياد والأقوياء على الفقراء والعبيد، حيث كان المجتمع المكي مجتمعا يتكوّن من عدة طبقات متميزة، ليعيد اليوم أحفاد من أسس لذلك النظام الطبقاتي الظالم والحاقد الكرّة اليوم مسلطين سيوفهم على رقاب العباد ومرغميهم على التبعية العمياء لسلطتهم العميلة الذين هم ايضًا ليسوا بأصحاب القرار فيها حتى بأبسط ما يخصهم.
ها هم أتباع أبو سفيان وأبي جهل وأبي لهب وعقبة بن أبي جهل وعقبة بن أبي معيط و... كبار قادة العداء للرسول المصطفى (صلوات الله عليه) الذين لم ولن يتريثوا من فعل كل ما بوسعهم لردع الرسالة السماوية وقتل خاتم المرسلين واتباعه وانصاره… يعيدون الصورة ذاتها اليوم في مساعيهم لعودة الأمة الى الجاهلية والوثنية وعبودية غير الله سبحانه وتعالى ويعيثون في الارض فسادًا كما اشار الباري المتعال بذلك في محكم كتابه الشريف وفي أول سورة أنزلها على خاتم أنبيائه ورسله للبشرية جمعاء حيث حذرنا سبحانه وتعالى من طغيان الانسان على أوامره ويقف دون تحقيق هدى رب العالمين، حيث اشار اليها سبحانه جل وعلا بأنه قد استغنى، فقال: "كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى …" العلق (6-10) .
منذ عهد بزوغ شمس الإسلام المشرقة والوضاءة والحاقدون الناقمون على العدالة السماوية والوحدانية وحتى يومنا هذا يسعون جاهدين في تحريف صرح الدين القويم بوعاظ سلاطينهم وتزوير اعلامهم وتضليل الناس بادعاءاتهم "التمسك بالكتاب والسنة" متجاهلين "حديث الثقلين" ومحاربين ناقمين على كل من يتمسك به وصولًا الى الصراط المستقيم والعدالة السماوية والمساواة الربانية وما أن ينطق الناس بذلك حتى يلاقوا حتفهم في ظلمات السجون وامام محاكمات صورية طائفية، أو امام استباحة دمائهم واعراضهم بفتاوى ارهابية تكفيرية.
ما آلت اليه الأمة اليوم من خذلان وانبطاح وإذلال وفرقة ونفاق وإجرام وبطش بعضهم البعض، وعدم التعاون والتسامح ووحدة الصف فيما بين صفوفها، والهرولة المذلة نحو أعداء الله ورسله ورسالاته سعياً للحفاظ على أنظمتهم الدكتاتورية المهزومة المرفوضة من قبل شعوبها ما هو إلا مصداق لقوله تعالى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}- سورة البقرة:120.. حيث الفتنة ليست بجديدة بل بدأت منذ يوم الأثنين وفي سقيفة بني ساعدة حيث كبار القوم نقضوا عهدهم وقولهم لسيد البشرية وخاتم المرسلين محمد الأمين صلوات الله عليه في غدير خم.
قال الشعبي: فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى إمتلأت بهم الدار، ثم أغلقوها عليهم، فقال أبو سفيان بن حرب: أعندكم أحد من غيركم؟، قالوا: لا، قال: "يا بنى أمية ، تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، مامن عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة! (إبن أبي الحديد- شرح نهج البلاغة- ج9 ص53).. وتبعه بذلك هارون العباسي مخاطباُ أبنه المأمون (أن الملك عقيم..) كل ذلك يؤكد أن القوم ذاتهم لا فرق بينهم تأمروا على نقض رسالة خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار ووصيته التي كا يكررها مراراً وتكراراً كي يضمن بقاء الدين الاسلامي الحنيف ووحدة الأمة بقوله "إني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي؛ فإنَّهما لن يفترقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ" – رواه صحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن الدارمي ومسند أحمد بن حنبل.
"حديث الثقلين" رواه أكثر من (120) من كبار الرواة الثقة خاصة لدى العامة وفي مقدمتهم صحيح مسلم [مسلم النیسابوري، صحيح مسلم، ج4، ص1873، الحدیث 36.] والذي يعدّ أهم مصدر حديثي عند أهل السنة بعد كتاب صحيح البخاري؛ فإنّ الحاكم النيسابوريّ المحدّث من أهل السنة نقله في كتابه "المستدرك على الصحيحين" عن زيد بن أرقم، وصرّح بصحّته على شرط مسلم والبخاري.[ الحاکم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، 1411هـ، ج3، ص160.] كما صحّحه كذلك العالم الشافعي ابن حجر الهيثمي،[ ابن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، 1417هـ، ج2، ص439 و 653.] وقد نقل عنه عبد الرؤوف المناوي في كتابه "فيض القدير" أنّ جميع رواة هذا الحديث من الثقات.[ المناوي، فيضالقدير، 1391هـ، ج3، ص15.] ويذكر علي بن عبد الله السمهودي الشافعي في كتابه "جواهر العقدين" أن أحمد بن حنبل قد نقل الحديث في مسنده بسند حسن وصحيح، وكذلك نقله سليمان بن أحمد الطبراني في كتابه "المعجم الكبير" بسند رواته من الثقات.[ السمهودي، جواهر العقدين، 1405هـ، ج2، القسم الأول، ص82.]
أما ابن الجوزي الحنبلي فقد قام بنقل الحديث بسند خاص في كتابه "العلل المتناهية"، ج1، ص268.. غير أنّ علماء مثل السمهودي وابن حجر الهيثمي لم يقبلوا تضعيف ابن الجوزي للسند، لأن الحديث قد ورد في صحيح مسلم وغيره بأسانيد مختلفة. السمهودي، جواهر العقدين، 1405هـ، ج2، القسم الأول، ص73؛ ابن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، 1417هـ، ج2، ص652.. وقال ابن شهرآشوب في مناقبه: قال رسول الله صلّي الله علیه وآله: لَمْ يَمُتْ نَبِيُّ قَطُّ إلاَّ خَلَّفَ تَرِكَتَهُ، وَقَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللَهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي [غاية المرام ص 230، الحديث التاسع والاربعون عن الخاصّة].
https://telegram.me/buratha
