الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب أهل البيت عليهم السلام في الحياة الاِسلامية للسيد محمد باقر الحكيم: هذا إبراهيم عليه السلام وهو شيخ الاَنبياء، عندما خاطبه الله تعالى وابتلاه بكلمات من عنده، فجعله إماماً للناس "وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا" (البقرة 124)، كان أول شيء يطرحه على الله تعالى ويرجوه منه، عندما يحملّه الله تعالى هذه المسؤولية، هو أن تكون هذه الاِمامة في ذريته أيضاً "قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّـلِمِينَ" (البقرة 124). وكذلك الحال في إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يقيمان دعائم البيت "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (البقرة 127)، هؤلاء في البداية يطلبون القبول من الله تعالى لهذا العمل العظيم، ثم يدعوانه تعالى أن يكونا مع ذريتهما من المسلمين المهتدين المنيبين إليه المقبولين لديه، "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة 128). ثم لا يكتفون بأن تكون هذه الذرية ذرية مسلمة مهتدية مقبولة، بل تترقى هذه الدعوة بأن يطلبوا أن تكون هذه الذرية ذرية تتحمل مسؤولية النبوة والرسالة أيضاً "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (البقرة 129) ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفتخر ويقول: (أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السلام) يعني كان يرى نفسه في تحمله لهذه الرسالة إن ذلك كان إستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام عندما كان يرفع القواعد في البيت.
وعن ارتباط الوصي والامام بالرسالة يقول السيد الحكيم قدس سره في كتابه: أن الوصي والاِمام عندما يكون له هذا الجذر التاريخي والاِرتباط النسبي بالرسالة، يكون إحساسه بالاِنتماء إليها وشعوره بالمسؤولية تجاهها، متجذراً بدرجة عالية جداً، وذلك حينما يرى في نفسه فرعاً من شجرة طيبة أصيلة، تمتد في جذورها الرسالية عبر القرون في التاريخ الرسالي والاِنساني، وتمده بالعزم والاِرادة والصبر والصمود والقدرة على تحمل المحن والآلام والشدائد والاِنتصارات والتقدم والبركة الاِلهية التي شهدتها هذه الشجرة الطيبة في تاريخها. ويؤكد هذا التفسير عدة مؤشرات، يمكن أن نلاحظها في القرآن الكريم: الاَول: تأكيد القرآن الكريم على الجذر التاريخي للرسالة الاِسلامية، مع أن الرسالة الاِسلامية هي أفضل الرسالات الاِلهية، وهي الرسالة المهيمنة عليها ـ كما ذكرنا ـ وهي الرسالة الخاتمة، ورسولها أفضل الاَنبياء على الاِطلاق، ومع ذلك كله كان القرآن الكريم يؤكد على هذا الجذر التاريخي والاِنتماء للاَنبياء السابقين، ولاسيما إبراهيم عليه السلام الذي ينسب إليه القرآن الكريم الاِسلام في مواضع عديدة، منها قوله تعالى: "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـبَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاِّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ءَابآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ وَإِسْحَـقَ إِلهاً وَحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة 131-133). بل أن إبراهيم عليه السلام هو الذي سمى الاَمة الخاتمة بهذا الاَسم منذ البداية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: "وَجَـهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَـكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَهِيمَ هُوَ سَمَّـكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللهِ هُوَ مَوْلَـكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ" (الحج 78). ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (البقرة 129) فقد ذكرنا سابقاً أن وجود رسول الله كان بدعوة من إبراهيم عليه السلام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفتخر بأنه كان دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام. الثالث: ذكْر القرآن الكريم لقصص الاَنبياء وتأكيده أن أحد الاَهداف لذلك هو تثبيت النبي، وطلب الصبر والثبات منه تأسياً بالاَنبياء السابقين "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" (الاحقاف 35).
يقول السيد الشهيد محمد باقر الحكيم قدس سره عن الرسالات الالهية: إن الرسالات الاِلهية تواجه عادة مع غض النظر عن الاِختلاف الاَول الذي ذكرناه في النقطة الاَولى بعد ثبوتها ورسوخ أقدامها نوعاً آخر من الاِختلاف وهو الاِختلاف في تفسير هذه الرسالة، وفهم مداليها وتأويلها وتجسيد المصاديق الخارجية فيها، وهذا نوع آخر من الاِختلاف، أشار إليه القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة التي تحدث فيها عن أهل الكتاب وما اختلفوا فيه من تأويل الكتاب، منها قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَـبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلََئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلـَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَـبِ لَفِى شِقَاقِ بَعِيدٍ" (البقرة 174-176). وقوله تعالى: "وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِىَ إِسْرََءِيلَ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـهُم مِنَ الطَّيِّبَـتِ وَفَضَّلْنَـهُمْ عَلَى الْعَـلَمِينَ * وَءَاتَيْنَـهُم بَيِّنَـتٍ مِنَ الاََْمْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (الجاثية 16-17) كما أن بعض الآيات القرآنية أشارت أيضاً إلى كلا النوعين من الاِختلاف، كما في قوله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنـتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (البقرة 213). وهذا النوع من الاِختلاف هو معركة أخرى تخوضها الرسالات الاِلهية عادة وهو غير الاِختلاف الناشىء من تحريف أصل الرسالة بمعنى ضياع بعض معالمها المهمة، والذى حفظ في الرسالة الاِسلامية، فهو تحريف في التطبيق والفهم، ويحتاج أيضاً إلى قيادة عصومة في فهمها الكامل للرسالة وفهم مضمونها وآفاقها، وفي معرفتها لتفاصيلها التي لايمكن عادة للنبي أن يبينها لجميع الناس ـ كما تدل على ذلك شواهد كثيرة وكذلك معصومة في حرصها على الرسالة وقيمها ومُثلها ومبادئها وصبرها واستقامتها في هذا الطريق، وتحمّلها لمسؤوليتها وأعبائها. وقد كان يتم ذلك أيضاً عن طريق النبوات التابعة من الرسالات الاِلهية الاَخرى، أو الاَوصياء الذين كانوا يتحملون هذا الدور من الاِمامة أيضاً وأما في الرسالة الخاتمة فقد تمحّض هذا الاَمر في دور الاَمامة.
وحول الاصطفاء والاجتباء يقول السيد الشهيد الحكيم قدس سره في كتابه: والذي يمكن أن نستنبطه من القرآن الكريم أيضا هو حديث القرآن الكريم الواسع والكثير، الذي يمتد في عدد كبير من الآيات والمناسبات والآفاق حول (الاِصطفاء) و (الاِجتباء) في حركة التاريخ. القرآن الكريم في آيات كثيرة ومنها قوله تعالى: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَىَ ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَهِيمَ وَءَالَ عِمْرَنَ عَلَى الْعَـلَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (ال عمران 33-34) يتحدث عن ظاهرة الاِصطفاء كظاهرة غيبية، وقضية من القضايا الاِلهية الغيبية التي لا تخضع للتفسيرات المادية سارية أيضا في حركة التاريخ، اصطفى الله تعالى آدم اصطفاءاً خاصاً، واصطفى نوحاً، ثم اصطفى إبراهيم وآل إبراهيم، ثم اصطفى عمران وآل عمران، وكذلك أكد القرآن الكريم أن هذا الاِصطفاء ليس أمراً واقفاً على هذه الاَسماء وهذه الجماعات، وإنما هي قضية ذات إمتداد في الذرية، ذرية بعضها من بعض، يعني حركة تاريخية تتحرك فى التاريخ الاِنساني، يمكن أن نسميها حركة الاِصطفاء، وكذلك قد تكون حركة في الاَسرة أو في الجماعة والاَمة. إذن، فلماذا لا يمكن أن نفترض وجود هذه الحركة وهذا العامل الغيبي في إصطفاء الله تعالى لآل محمد صلى الله عليه وآله، وهو ـ أيضاً ـ ما يشير إليه القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" (الاحزاب 33) ويتم تأكيد ذلك أيضاً في آية المباهلة وغيرها. إذن، فيمكن أن يكون هذا سرّاً من الاَسرار الاِلهية الغيبية التي لها دلالات معروفة كما سوف نشير إلى بعضها ولكن لها أيضاً دلالات وآثار في حركة التاريخ، وتكامل الاِنسان الدنيوي لا نعرفها في فهمناالمادي المحدود لحركة التاريخ، ويكون لها أيضاً أبعاد في مستقبل حياة الاِنسان الاَخروية.
https://telegram.me/buratha