الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب أهل البيت عليهم السلام في الحياة الاِسلامية للسيد محمد باقر الحكيم: عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام، في تفسير الفخر الرازي الكبير، في ذيل تفسير قوله تعالى: "ان الله اصطفى آدم ونوحاً" (آل عمران 33)، قال: علي عليه السلام: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب، قال: فاذا كان حال المولى هكذا فكيف حال النبي صلى الله عليه وآله، وكذلك جاء الحديث في كنز العمال13:114، حديث 36372. هذه الحقيقة إذا أردنا أن ننظر إليها من الناحية التاريخية والمادية، نراها كانت قائمة من خلال هذا الاِقتراب في دائرة عليّ عليه السلام من النبي صلى الله عليه وآله، حيث تربى في حضن رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ابن عمه، تزوج من ابنته، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يدخل إلى بيت عليّ كما يدخل إلى بيته، وعليّ يدخل على رسول الله كما يدخل إلى بيته. هذه العلاقة كانت موجودة بدرجة عالية، الاَمر الذي أثار أحياناً غيرة بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله أو حساسية، أو أي تعبير آخر يمكن أن نقوله أو نعبر عنه في هذا المقام بصورة مناسبة. إذن، فمن الناحية الواقعية والخارجية أيضاً نشاهد بأن التاريخ يؤكد على هذه العملية وهذه الفكرة والنظرية، وكان لها واقع خارجي في الرسالة الاِسلامية من خلال إعداد عليّ عليه السلام، وقد تحدث عليّ عليه السلام شخصياً فيما روي عنه ذلك، كما تحدث أئمة أهل البيت أيضاً عن ذلك.
وعن دعوة الرسالات السابقة يقول السيد الشهيد الحكيم قدس سره في كتابه: دعت الرسالات السابقة إلى إقامة الحق والعدل بين الناس وإلى تحكيم ما أنزل الله تعالى بين الناس، فقد قال القرآن الكريم في سياق الحديث عن نزول التوراة: "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلـَئِكَ هُمُ الْكَـفِرُونَ" (المائدة 44)، وقال في سياق الحديث عن نزول الاِنجيل: "وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلـَئِكَ هُمُ الظَّـلِمُونَ" (المائدة 45)، كما قال في سياق الحديث عن نزول القرآن الكريم: "وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلـَئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ" (المائدة 47) إذن، فقضية الدعوة إلى إقامة الحكم بين الناس ليست خاصة بخصوص الرسالة الاِسلامية، بل أن قضية إقامة الحكم بما أنزل الله بين الناس هي قضية ترتبط بكل الرسالات الاِلهية، ولكن شاء الله تعالى في حركة وتاريخ هذه الرسالات الاِلهية أن يقوم الحكم بين الناس كحالة سياسية اجتماعية خارجية، نعبّر عنها بقيام الدولة الاِسلامية، شاء الله تعالى أن يقوم ذلك في خصوص تاريخ الرسالة الخاتمة، دون بقية الرسالات الاَخرى. فنوح عليه السلام لم يتمكن من تحقيق قيام دولة إسلامية، ولو بمستوى الاِسلام الذي جاء به نوح عليه السلام. كما أن إبراهيم عليه السلام وهو شيخ الاَنبياء لم يتمكن أن يقيم هذا الكيان السياسي الاِسلامي، وموسى عليه السلام شاء الله تعالى أن يقبضه إليه قبل أن يتمكن من إقامة هذا الكيان السياسي الاِسلامي، بعد أن كان قد مهد له بإخراج بني إسرائيل من سلطة فرعون، وجاء بألواح التوراة، ليحقق ذلك، ولكنهم رفضوا الاِستمرار في المسيرة ودخول الاَرض المقدسة، لتحقيق هذه المهمة الاِلهية الصعبة، فكتب الله عليهم أن يتيهوا في الاَرض أربعين سنة "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)" (المائدة 21-26). وكذلك الحال في النبي عيسى عليه السلام، حيث رفعه الله قبل أن يحقق هذا الهدف الاِسلامي العظيم. ولم يتمكن الحواريون من أن يقوموا بذلك أيضاً فولدت الرهبانية والاِنعزال، وانحرفت المسيحية على يد بولس، عندما تحولت إلى الحكم والسلطان والقيصرية. وشاء الله تعالى أن يكون ذلك من امتيازات نبوة محمد صلى الله عليه وآله. إذن، فهذا من الامتيازات الخاصة التي امتازت بها الرسالة الاِسلامية. هذا بحث عميق وفيه الكثير من التفاصيل، وقلت انني أشير هنا إلى العناوين الكلية، ومن هذه التفاصيل تفسير ظاهرة قيام الدول التي أقامها بعض الاَنبياء، كداود وسليمان عليهما السلام، وغيرهما من الاَنبياء الذين أقاموا دولاً، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك، عندما يتحدث عن تفضيل ونعم الله على بني إسرائيل بقوله تعالى: "إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا" (المائدة 20)، فأن بعض هؤلاء الاَنبياء أقاموا دولة، ولكن هذه الدولة التي أقاموها تختلف بحسب مضمونها وهويتها وخصوصياتها عن هذه الدولة الاِسلامية التي أقامها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بحسب سعتها ودائرة وجودها وتفاصيلها، بل بحسب الهوية والمضمون أيضا وهذا بحث أشرت له بصورة موجزة أيضاً في بحث (العالمية والخاتمة والخلود) كصفات للرسالة الاِسلامية.
وعن البعد التأريخي للرسالات السابقة يقول السيد محمد باقر الحكيم: البعد التاريخي، وقد أشار الشهيد الصدر قدس سره في ما كتبه حول خلافة الاِنسان وشهادة الاَنبياء إلى هذا البعد التاريخي، إذ يذكر إننا نلاحظ في تاريخ الاَنبياء والرسالات الاِلهية أن الله تعالى اختار الاَوصياء والقادة كما يعبّر الشهيد الصدر قدس سره من أؤلئك الاَقربين للاَنبياء من أقاربهم أو ذرياتهم، وهذا نص كلامه: (في تاريخ العمل الرباني على الاَرض نلاحظ أن الوصاية كانت تعطى غالباً لاَشخاص يرتبطون بالرسول القائد إرتباطاً نسبياً أو لذريته. وهذه الظاهرة لم تتفق في أوصياء النبي محمد صلى الله عليه وآله فحسب، وإنما هي ظاهرة تاريخية اتفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل ويشير الشهيد الصدر قدس سره كشاهد على هذه الحقيقة إلى الآيات القرآنية، كقوله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ" (الحديد 26) وكذلك قوله تعالى: في الآيات السابقة 38 ـ 78 من سورة الاَنعام "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" (الانعام 38) الى "فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ" (الانعام 78). إذن، فهذه ظاهرة تاريخية، ومن ثم فقد طبقت أيضاً على رسالة النبي صلى الله عليه وآله، بأعتبار أن الرسالة الخاتمة وإن كانت هي رسالة كاملة وبكمالها تتميز على الرسالات السابقة، ولكن هذه الرسالة الخاتمة هي في الحقيقة إمتداد لتلك الرسالات الاِلهية، والنبي صلى الله عليه وآله جاء من أجل أن يصدِّق تلك الرسالات، ثم يهيمن عليها، وقد ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله ما يؤكد ذلك، وأن ما تشهده هذه الرسالة الخاتمة يتطابق تماماً مع ما شهدته الرسالات السابقة حتى جاء التعبير في مقام التطبيق الكامل قوله صلى الله عليه وآله: (لتركبن سنّة من كانت قبلكم حذو النعل بالنعل).
وعن کتاب أهل البيت عليهم السلام في الحياة الاِسلامية للسيد محمد باقر الحكيم: المقارنة الدقيقة في البحث والاِستنتاج وموازنة تحقيق الاَهداف بين حركة الهداية وإقامة الحجة على الناس، وفرض الهيمنة السياسية على الجماعة، حيث نلاحظ: أولاً: إن رسول الله كان يبذل في البداية كل الجهود من أجل الهداية بدون استخدام القوة، وكان يقدم التضحيات الغالية من أجل ذلك، ثم يبدأ بعملية استخدام القوة كعامل لاِزالة الحواجز أمام حركة الهداية. ثانياً: إن الهداية، وإن كانت تحتاج إلى تضحيات وتواجه صعوبات وفترة زمنية كبيرة نسبياً، ولكنها كانت في الوقت نفسه تمثل أحد العوامل المهمة في إيجاد تسهيلات أمام حركة فرض السيطرة السياسية، وتسليم الناس للاِسلام وقبول الرسالة الاِسلامية. ولذلك كانت الفترة المكية لحركة الرسول أطول زماناً من الفترة المدنية، والنتائج لفرض السيطرة السياسية للفترة المكية كانت محدودة جداً، ولكنها كان لها تأثير مهم في النتائج التي حققها رسول الله بعد ذلك في الفترة المدنية، من تسهيل فرض السيطرة فيها على الجزيرة العربية، ومنها مكة المكرمة نفسها. وكذلك نلاحظ في هذا المجال أن الجهود الكبيرة التي بذلها الرسول في معالجة قضية أهل الكتاب، وتحمله المعاناة من أجل مخاطبتهم وإقامة الحجة عليهم، كان لها دور كبير في تحقيق نتائج الهيمنة السياسية على مناطقهم المنيعة "هُوَ الَّذِىَ أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ مِن دِيَـرِهِمْ لاََِوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوَاْ أَنَّهُم مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللهِ فَأَتَـهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَـأُوْلِى الاََْبْصَارِ" (الحشر 2)
https://telegram.me/buratha