مصطفى الهادي
السماء وما فيها من مخلوقات الله تعالى تتجلى فيهما عظيم قدرته وتشمل كل شيء خلقه الله تعالى (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان).(1) وبما أن الله تعالى كامل ، فقد خلق كل شيء على غاية الكمال. كل مخلوقاته نابضة بالحياة والحيوية ،وإن لم نشعر ببعضها ولكن كل شيء خلقهُ الله نفخ فيه الحياة ويشملهُ التكليف أيضا (صنع الله الذي أتقن كل شيء).(2) ثم بعد إتمامه لكل ذلك استدعى أمامه السماء والأرض (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين).(3)
(قالتا أتينا طائعين) خلق الله فيهما الكلام، فتكلمتا، كما خلق عند الإنسان قابلية الكلام والنطق (الله الذي أنطق كل شيء). (4) فكل شيء خلقهُ تعالى له لسان ناطق ولكن لا نفهمه وإنما فهمه محصور بفئة معينة من البشر ممن اختصهم الله تعالى بذلك : (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).(5) فالكل منقاد إليه تعالى طائعا مختارا إلا الشياطين التي تمردت من دون سائر المخلوقات. ثم أمر الله تعالى الطبيعة وما فيها بأن تُطيع الإنسان وتنقاد له من أجل مصلحته وديمومة حياته ووفر له سبل العيش في الأرض ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا).(6) سخّرها بطريقة ينتفع في حياته من علويها وسفليها ولا يزال المجتمع البشري يتوسع في الانتفاع بها والاستفادة من توسيطها والتوسل بشتاتها في الحصول على مزايا الحياة فالكل مسخر له.(7) فكل ما موجود الآن وما سوف تراه الأجيال من اختراعات مبهرة إنما هو من الأرض.
ولكن الشياطين تأبى إلا أن تدفع بالإنسان نحو مصيره الأسود من خلال إرشاده إلى تسخير هذه الموارد لصناعة الشر. فقد حرّم الله تعالى الشياطين من الاستفادة من الموارد السماوية والأرضية فلا حضارة لها ، فلا يعلم أحد حتى أين تعيش وكيف تعيش،ولذلك سعت الشياطين إلى بناء حضارتها بجهود الإنسان فجعلتهُ الواجهة و وسوست له بكل الأفعال الشيطانية واستخدمته لصنع أدوات الشر من أجل أن يقضي بنفسه على نفسه. ودفعهُ للتمرد على خالقه وعلى نفسه وعلى بني جنسه وعلى كل شيء حوله، فأصبح الإنسان شيطانا في لباس الإنس : (شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض).(8 )
فاستخدم الإنسان موارد الأرض أسوأ استخدام، وقضى الإنسان على إنجازاته بنفسه فبادت على يديه حضارات كانت سائدة لازالت آثارها ماثلة أمامنا تبهرنا بعض جوانبها. كل ذلك بفعل طاعتهم للشياطين والانقياد لهم. ولكن سيأتي يوم يتبرأ فيه الشيطان من الإنسان ويتنصل من المسؤولية ويرمي بالسبب كله على عاتق الإنسان (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم).(9)
يتبين من هذا الآية أن طبيعة خلق الإنسان أن لا سبيل للشياطين عليه وباعتراف الشيطان نفسه (ما كان لي عليكم من سلطان) وإنما يُلبي الإنسان دعوة الشياطين له من خلال المغريات والأماني والشهوات ، التي اتخذها الشيطان أساليبَ في إغواء الإنسان والإيقاع به، فتفنن فيها، إنه لا يأتيه فيأمره بالشر، وينهاه عن الخير مباشر، ولكنه يتخذ طرقاً ووسائلَ وخطواتٍ للإغواء والإضلال. فكان أول ضحية وقعت بين يديه هما أبوينا آدم وحواء(فأزلهما الشيطانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه).(10) أخرجهم بعد أن عرف نقطة ضعف الإنسان فجائه من هذه الناحية قائلا له : (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى). آدم لم يستجب للشيطان إلا بعد أن أقسم الشيطان بالله : (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين).فلم يكن آدم يعلم أن هناك من يُقسم الله كاذبا، فقد كان حديث التجربة.
إنها العداوةُ الشيطانية الإبليسية ليس بعدها عداوة، وحسدٌ وحقدٌ على آدم وذريته، منذ أن طُرد الشيطان من الجنة بسبب آدم (ع) فكان الحوار الأول بين الشيطان وخالقه مما ذكر بعضه القرآن : (قال فاهبط منها فما يكونُ لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين، قال أنظرني إلى يوم يُبعثون، قال إنك من المنظرين، قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجدُ أكثرهم شاكرين، قال اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين).(11) لماذا جهنم وعذاب النار؟ ذلك لأن الله أسجد لآدم النار والنور معا ــ الملائكة والجن ــ فأبى الإنسان إلا أن يسجد للنار فيُطيع الشيطان المخلوق الناري، فكان عذابه في النار التي اختارها.
لقد حذرنا تعالى من الوقوع في شباك الشياطين واخبرنا بأنهم أعداء لنا ، ولكننا مع الأسف لم نُطع الله وأطعنا الشياطين .(إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير).(12) فلا يوجد في هذا الدنيا إلا حزبان (حزب الله وحزب الشيطان) فانظر مع من تكون.
المصادر:
1- سورة السجدة آية : 7.
2- سورة النمل آية : 88.
3- سورة فصلت آية : 11.
4- سورة فصلت آية : 21.
5- سورة الإسراء آية : 44.
6- سورة الجاثية آية : 13.
7- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٨ - الصفحة ١٦١.
8- سورة الأنعام آية : 112.
9- سورة إبراهيم آية : 22.
10- سورة البقرة آية : 36.
11- سورة الأعراف آية : 14 ــ 18.
12- سورة فاطر آية : 6.
https://telegram.me/buratha