د. مصطفى يوسف اللداوي ||
لا يمكن محاكاة إنقاذ ركاب طائرة مدنية تحترق في السماء وتهوي على الأرض، ولا سفينة غارقةٍ في عمق البحر وركابها تتلاطمهم الأمواج وتجذبهم المياه إلى عمقها، ما لم تكن الحادثة حقيقية، والمحاولة جدية، والركاب لا يعلمون أن العملية وهمية، وأنها ليست أكثر من مناورة تجريبية، ومحاولة عملية لاكتساب الخبرة ومراكمة التجربة، في الوقت الذي يعرف المشاركون في عملية الإنقاذ أنهم في دورةٍ تدريبيةٍ، وأنهم يستطيعون إجابة الهاتف، والاتصال بمن يحبون، أو التقاط الصور التذكارية كما يرغبون، وأنهم لا يواجهون خطراً حقيقياً، وليسوا في موقفٍ يفاضلون فيه بين سلامتهم الشخصية وسلامة غيرهم.
هذا ما يقوله ضباطٌ إسرائيليون سابقون وخبراء عسكريون مطلعون، تهكماً على المناورات العسكرية التي تقرها قيادة الأركان، وتنفذها قطاعات الجيش المختلفة، وتنفق عليها أموالاً طائلة، وتستنفذ بها قدراتٍ كبيرةً، وتشغل بها الجمهور الإسرائيلي وتوهمه، بدءً من خطة تنوفا التي لم تثمر شيئاً، ولم ترمم قدرات الجيش، ولم تعد إليه الهيبة التي كانت، والتفوق الذي كان يدعيه، ولا تلك التي تحاكي السيطرة على مناطق في جنوب لبنان، أو تعيد احتلال مناطق في قطاع غزة، وتدمر أنفاقها وتقتل رجالها، وتحرر من بين أيديهم جنودها الأسرى، أو غيرها من المناورات التي تصفها دوماً بأنها الأضخم والأكبر، والأكثر دقةً ومشابهةً للواقع.
يتساءل الخبراء الإسرائيليون عن نتائج خطة تنوفا الضخمة، التي كانت نتيجتها فشلاً ذريعاً في حرب سيف القدس "حارس الأسوار"، وهي التي عول عليها رئيس أركان جيش الكيان أفيف كوخافي في ضرب المقاومة وكسر شوكتها، ولكن النتيجة كانت مخزية ومهينة، إذ انقشع غبار القصف العنيف على المنطقة الشمالية في قطاع غزة، فيما أطلق عليه جيش الاحتلال "مترو حماس"، عن نتائج بسيطة لم تؤثر على نتيجة الحرب، ولم تفت في عضد المقاومة الفلسطينية، التي سارعت بالكشف عن فشل العدوان، وخرجت من تحت الأنقاض تضحك وتسخر، وتباغت وتهاجم.
تأتي تعليقات المسؤولين الإسرائيليين في ظل مناورات "عربات النار"، التي انطلقت وما زالت، إذ من المقرر لها أن تستمر شهراً كاملاً، وهي تحاكي سيطرة المقاومة الفلسطينية على بعض المناطق الحدودية، ونجاحها في أخذ عددٍ من المدنيين رهائن، وتحاول المناورات أن تظهر قدرة الجيش على التعامل مع أكثر من جبهةٍ محتملةٍ في آنٍ واحدٍ، مع عدم إغفال الجبهة الداخلية التي باتت هي الخاصرة الأضعف في الكيان، تمهيداً للقيام بعملية حارس الأسوار الثانية، إلا أن المتابعين لشأن المنطقة يقولون، أن حسابات البيدر تختلف كلياً عن حسابات الحقل، وقد لا تشبهها أبداً ولا تتطابق نتائجها معاً.
فالمقاومة الفلسطينية تراقب المناورات جيداً، وترصد جيش العدو، وتتابع خطواته، وتدرك خطره، ولا تأمن شره، وتعرف أنه قد يغدر بها ويقلب مناورته إلى حربٍ، وهي لذلك مستعدة ومتهيأة، وتعبئ صفوفها وتجهز عدتها، ولعل عندها ما يخيف العدو ويقلقه، وما يفاجئه ويصدمه، وإلا كان قد باغتها قديماً وهاجمها كثيراً، وقضى على الأخطار التي تهدده، والمخاوف التي تنتابه، ولكنه يعلم أن قوى المقاومة تتهيأ وتتجهز، وتتطلع لأن تثبت على الأرض نفسها، وأن تفرض عليه قواعد الاشتباك الجديدة، التي لا يستطيع أن ينكر أن بعضها قد فُرضَ فعلاً، وثبت عملياً خلال حرب سيف القدس، التي جرت أحداثها قبل عامٍ من اليوم، وهي الحرب التي بدأتها المقاومة وأطلقت طلقتها الأولى هجوماً لا دفاعاً.
لا يقتصر التهكم على مناورات جيش الاحتلال وقيادته على الضباط السابقين والخبراء العسكريين، بل إن قيادة الكيان السياسية، الحكومة والنواب وقادة الأحزاب، لا ينفكون يشككون في قدرة الجيش على حسم المعركة، خاصةً لجهة العمليات البرية الكفيلة بحسم نتيجة الحرب، ولا يخفون عدم ثقتهم في إجراءاته ومناوراته، ويمتعضون كثيراً من مطالبة رئيس الأركان المستمرة بزيادة ميزانية الجيش والأجهزة الأمنية، وتمويل عمليات الشراء وتطوير الأسلحة والمعدات، وتغطية النفقات المتزايدة والمهام الطارئة التي يتصدى لها الجيش وأجهزته الأمنية، بينما لا يتمكن من تحقيق الأهداف التي بات لا يعلن عنها تجنباً للحرج وخوفاً من الفشل.
يعيب الخبراء العسكريون الإسرائيليون على جيش كيانهم، أن قيادته تستثمر في الشكل فقط وتهمل الجوهر، وتبالغ في قوتها وتنسى أن خصمها يقوى ويراكم القوة، ويستثمر في الشكل والجوهر معاً، ويحارب في الميدان وعلى مستوى النفسي، ويكسب في الحرب الكلاسيكية وينجح في حرب السايبر وتقنيات الطائرات المسيرة.
لا ينكر الخبراء الإسرائيليون تفوق جيشهم في سلاح الجو والبحر، وأنه يستطيع أن يمطر الخصم، خاصةً في غزة، بوابلٍ من الهجمات الصاروخية الجوية والبحرية، وقد تساعده أسلحة الميدان المتمركزة بعيداً عن مرمى الخصم، ولكن هذا التفوق البعيد لا يصنع نصراً ولا يحقق حسماً، ولا يضع نتيجةً ملموسةً للحرب لصالحه، ما لم يتمكن من النزول إلى الأرض، والقيام بعمليةٍ بريةٍ واسعةِ النطاق، يتمكن خلالها من قتل مئات المقاومين وعزلهم عن قيادتهم، دون أن يتكبد خسائر كبيرة تقوى المقاومة عليها، وتهدد بها، فضلاً عن عزمها خوض الحرب على الجانب الآخر من الحدود بعيداً عن سكانهم، لكن قريباً من المستوطنين وداخل بلداتهم.
يدرك قادة جيش الاحتلال هذه العيوب جيداً، ويعلمون مدى عجزهم في هذا الجانب، ولكن هذا لا يمنعهم أبداً عن التخطيط لعملياتٍ بريةٍ موضعيةٍ محددةٍ، وتشكيل فرقٍ عسكريةٍ نخبويةٍ خاصة، للقيام بمهامٍ محددةٍ في عمق أرض الخصم، بحيث تكون الفرق على ارتباطٍ كامل بهيئة الأركان، وتكون هناك جاهزية تامة لدعمهم وإسنادهم أو إنقاذهم وإعادتهم إلى وحداتهم بسلامٍ، إلا أن قادة الجيش ومسؤولي الوحدات الخاصة، يدركون صعوبة البقاء في أرض الخصم، واستحالة الانسحاب منها أحياناً، الأمر الذي من شأنه أن يجهض أي عمليةٍ قبل المباشرة بها، علماً أن مثل هذه العمليات لن تتمكن أبداً من تدمير القدرات القتالية للمقاومة الفلسطينية، ولن تمنعها من مواصلة إطلاق رشقاتٍ صاروخية.
بيروت في 23/5/2022
moustafa.leddawi@gmail.com
https://telegram.me/buratha