السفير الدكتور جواد الهنداوي ||
رئيس المركز العربي الاوربي للسياسات و تعزيز القدرات / بروكسل / في ٢ /١١ / ٢٠٢٢ .
لا يخلوا اي اتفاق او نص قانوني او دستور مِنْ مفردات او عبارات قابلة للتأويل او التفسير سلباً او أيجاباً ، لصالح هذا الطرف او لصالح ذاك الطرف المُتَفِقْ . ولو كان للقوانين وللاتفاقيات و للعقود صفة الكمال لما كان لوجود القضاء و المحاكم ضرورة .
ولكن ، وجود مواطن ضعف ، في الاتفاق، فالامر لايُبّددْ التفاءل و لايضّيعُ الامل المنشودان على انجاز و تنفيذ الاتفاق ، وما سيجلبه الاتفاق من مزايا سياسيّة و اقتصادية و أمنيّة للبنان وللمنطقة و للعالم .
أُنجِزَ الاتفاق بمدة قصيرة و قياسيّة لم تتجاوز اربعة شهور (من شهر حزيران الى شهر تشرين الاول ) لسنة ٢٠٢٢ ، صحيح أنّّ المفاوضات والوساطات بدأت منذ سنة ٢٠٢٠ ، وصحيح ايضاً بأنَّ جهود السلطات اللبنانية الدستورية في هذا المضمار بدأت في عام ٢٠١١ ، حين اصدر مجلس النواب اللبناني قانون رقم ١٦٤ في ١٠ /٨ /٢٠١١ ،يُلزم فية الحكومة باتخاذ الاجراءات واصدار القرارات اللازمة لتفيد القانون الداعي الى ترسيم حدود لبنان البحرية مع فلسطين المحتلة ، ولكن اربعة شهور كانت كافية لتكريس نتائج جهود عقد من الزمن .
كانت الحاجة للاتفاق هي وراء اتمامه بسرعة ؛ حاجة لبنان وحاجة امريكا و حاجة اسرائيل ؛ لبنان بحاجة ماسة الى استغلال ثرواته لانتشال اقتصاده من الانهيار ، وبحاجة الى دخولة في نادي دول الطاقة ، وامريكا والغرب بحاجة الى الغاز والنفط ، و اسرائيل بحاجة ايضاً الى استغلال الثروات في المياه الفلسطينيّة المحتلة وبحاجة ان تدخل نادي الطاقة . كما انَّ الحرب الاوكرانيّة الروسيّة دفعت اصحاب الحاجة ( امريكا والغرب و اسرائيل ) الى التواضع في شروطهم و التنازل عن بعضها ، والى " الاخلاص " في جهودهم ، ونتمنى الاخلاص والوفاء في التزاماتهم .
كان ادراك الجميع بويلات ومصائب فشل الوصول الى الاتفاق عاملاً اساسياً في انجازه ، لم يكنْ اصحاب الحاجة ، ولا الذين خلف اصحاب الحاجة بوارد خوض وتحمّل وزر حرب اخرى في منطقة انتاج وتسويق الغاز والنفط . لذا كان دور الوسيط الامريكي فاعلاً ومخلصاً ومنتجاً ، وتمنيناه ان يكون هكذا في الملف الفلسطيني.
ما توّصل له الطرفان ( اللبناني و الاسرائيلي ) هو حلٌ " سلمي و دائم و منصف " لنزاعهما البحري الحدودي الاقتصادي . وصفات الحّل ( سلمي ودائم ومنصف ) مُقتبسة من نص الفقرة هاء من القسم الاول للاتفاق المكتوب .
الصفة القانونية لهذا الحّل هو اتفاق غير مُباشر لفّض نزاع بين لبنان واسرائيل حول مياههما الاقليمية و المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما ، وتّمَ هذا الاتفاق " بواسطة و برعاية و بضمانة امريكية " ، وهذا الالتزام الامريكي الرسمي ( وساطة ورعاية و ضمانة ) مُستمر ودائم ، وغير محدود لا في الجهد ولا في الوقت .
بعبارة اخرى لا ينتهي عند اتمام الاتفاق وانما يستمر عند تنفيذ الاتفاق . هذا ما استنتجه من قراءتي لاقسام الاتفاق الاربع ولنصوص الاتفاق التي جاءت على شكل فقرات . حيث نجد استعداداً امريكياً بالتدخل وبالتوسّط بخصوص ايَّ سوء فهم او اختلاف تفسير يقع بين الطرفين ، وخاصة في شأن استثمار و استغلال بلوك رقم ٩ والذي يتضمن حقل قانا ،وثلثي هذا الحقل في الجانب اللبناني وثلث منه او اقل في الجانب الفلسطيني الاسرائيلي .
حضور للدور الامريكي في جميع فقرات الاتفاق هو رسالة طمأنة من الادارة الامريكية موّجه الى لبنان لتبديد مخاوفه من عدم او سوء تنفيذ من قبل اسرائيل .
ومُحقْ جداً لبنان في توخيه الحيطة والحذر ،لانّ اتمام الاتفاق مع اسرائيل شئ وتنفيذ الاتفاق من قبل اسرائيل شئ آخر ، وتجربة العرب مع اسرائيل غنيّة بسلوك نكث العهود و التنصّل من الاتفاقات و الالتزامات .
ويتكلُّ لبنان ايضاً على قدراته العسكرية وعلى تلاحم الشعب و الجيش والمقاومة في حال نكثت اسرائيل في التزاماتها ، وفي حال عجزت امريكا على ضبط اسرائيل .
قّوة الردع التي يمتلكها اليوم لبنان ، والتي ساهمت ايضاً بتحقيق انجاز الاتفاق ،ستبقى وستتعزّز في المستقبل ،من اجل ضمان تنفيذ مسؤول ومنصف للاتفاق .
من الناحية الاقتصادية ،ستباشر اسرائيل باستغلال وباستثمار منطقتها الاقتصادية الخالصة لاستخراج الغاز ،من حقل كاريش ، والذي يقع حصراً في منطقة اسرائيل الاقتصادية . على لبنان البدء بأعمال التنقيب في منطقته الاقتصادية الخالصة في بلوك رقم ٨ ، ٩ ، ١٠ .وخاصة…
عندما نتفحص نصوص الاتفاق ، و التي وردت في اربعة اقسام وفي عّدة فقرات ، نجدُ في القسم الاول نصوص تؤكد على ان هذا الاتفاق هو ترسيم حدود بحريّة نهائي و دائم لكل من لبنان و اسرائيل ، مع تحفظيّن صريحيّن : الاول هو " دون المساس بالحدود البريّة " ، والثاني هو " في سياق ترسيم الطرفين للحدود البرية او في الوقت المناسب بعد ذلك ، والى ان يتم تحديد هذه المنطقة ،يتفق الطرفان على ان الوضع الراهن …" ، لذا ليس من دون سبب ان يصفَ بعض المحللّين بان هذا الاتفاق هو اتفاق " الوضع الراهن " .
في الفقرة د من القسم الاول نجدُ النص التالي " الاحداثيات الواردة في اتصالات كل طرف في الامم المتحدة ( يعني مراسلات لبنان واسرائيل الى الامم المتحدة ) تحّلُ محل الاحداثيات الواردة الى الامم المتحدة من اسرائيل بتاريخ ٢٠١١/٧/١٢ ، ومن لبنان بتاريخ ٢٠١١/١٠/١٩ ، ولا يجوز لاي طرف مستقبلاً ان يقدم مخططات او احداثيات الى الامم المتحدة لا تتفق مع هذه الاتفاقية … " . انتهى النص .
نستنتج من هذا النص بأن الاحداثيات التي تم تبنيها نهائية و مُلزمة ولا يجوز استبدالها .
في نصوص اخرى ، نجد ان التزام اسرائيل مبنياً على معايير قابلة للتفسير و للتأويل ؛ مثلاً ،في الفقرة د من القسم الثاني والخاص باستغلال الثروات : " لن تعترض اسرائيل على الانشطة المعقولة والضرورية … التي يقوم بها مشغّل بلوك رقم ٩ ( يعني التي تقوم بها الشركة التي ستستكشف الغاز في حقل قانا ) جنوب خط الحدود البحرية ( يعني في مياه المنطقة التابعة لاسرائيل ،لأنَّ جزء من حقل قانا يقع فيها ) سعياً وراء استكشاف الغاز …" . عبارة " انشطة معقولة وضرورية " قابلة للتأويل وللتفسير ،ربما تكون بعض الانشطة ضرورية ولكنها لاسرائيل غير معقولة ! ماهو المعيار للتمييز بين ماهو معقول وغير معقول لاسرائيل ؟
في الفقرة ز من القسم رقم ٢ ، نجدُ ايضا مطّب آخر ، " اذا كان حفر الافاق ضرورياً جنوب خط الحدود البحرية ( يعني في المياه التابعة لاسرائيل ) .. لن تحجب اسرائيل بشكل غير معقول هذه الموافقة على الحفر … "
هنا ايضاً نتساءل وكذلك القارئ الكريم ما هو المعيار للتمييز بين ماهو معقول وغير معقول ؟ قد يكون للشركة التي تتولى الحفر امراً معقولاً وقد يكون لاسرائيل الامر غير معقول ! حصول مثل هذا النزاع وارد حتى ولو ركَنّا الى ماهو معتاد عليه في مجال النشاط .
الفقرات الاخرى من الاتفاق تُكّرسُ دوراً مهما للولايات المتحدة الامريكية في الوساطة والتدخل عند حدوث ايَّ تعثّر او سوء تنفيذ بند من بنود الاتفاق .
رغّمَ كل ما يتضمنه الاتفاق من التزامات واضحة لكلا الطرفين ، ومن دور وساطة مستمر للولايات المتحدة الامريكية ، يبقى حسن تنفيذ الاتفاق والتزام اسرائيل و امريكا مرهونه بتطورات الوضع الاقليمي والدولي والحاجة الى موارد الطاقة .
الجميع يلتقون في القول بأنَّ هذا الاتفاق سيساهم في امن واستقرار المنطقة ، وهذا صحيح جداً ان حسُنت النوايا وتوازنت قوى الردع لدى الاطراف المتفقّة .
( المقال اعلاه هو مداخلة في اطار الندوة التي نظمّها المركز العربي الاوربي للسياسات وتعزيز القدرات في بروكسل وبالتعاون مع سفارة الجمهورية اللبنانية في بروكسل ،بعنوان : لبنان نحو ترسيخ السيادة والاصلاح والتوافق ، بتاريخ /٢٠٢٢/١١/2 ) .