سوريا - لبنان - فلسطين

أزمة التطبيع والتخلي العربي ظرفٌ طارئٌ أم حالةٌ دائمةٌ


د. مصطفى يوسف اللداوي ||

 

لا أعتقد أن ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي فيما يتعلق بالاعتراف بالعدو الصهيوني والتطبيع معه هو أمرٌ طبيعيٌ وحدثٌ عاديٌ، فحالة السباق المحمومة التي نراها، وظاهرة الارتماء المذمومة في أحضان العدو الصهيوني التي نشهدها، ومساعي الدمج الشائنة ومشاريع التعاون المشبوهة، ونظريات التماهي الشاذة وأشكال التوافق الغريبة، لا تعبر عن حقيقة الأمة العربية والإسلامية، ولا تعكس صورتها الحالية ولا صفحاتها التاريخية، فالأمة العربية تاريخها تاريخُ عزٍ وكرامة، وماضيها ماضي مجدٍ وشهامةٍ، لا تقبل أبداً بذلٍ يفرض عليها، ولا بضيمٍ يمارس ضدها، ولا ترضى بتبعيةٍ مهينةٍ وتقليدٍ مسخٍ يلغي الهوية ويبهت الصبغة.

هذه الظاهرة الجديدة، الصريحة الواضحة، والعلنية الوقحة، لا تتوافق مع الموروثات العقدية والثوابت الوطنية للأمة، التي نشأت عليها وتربت على مفاهيمها الواضحة والصريحة، وهي مفاهيمٌ وقيمٌ دينية عقائدية، وقومية وطنية، وحضارية تاريخية، لا تقبل الشك ولا يضطرب لديها الفهم، ولا تستطيع أي قوةٍ مضادةٍ أن تواجهها، ولا أي نظريةٍ وفكرةٍ أن تتصدى لها وتبزها، فمفاهيم الأمة العربية والإسلامية التي نشأت عليها مفاهيمٌ أبديةٌ، باقيةٌ ما بقي الوجود، وثابتةٌ ثبات الجبال، رسوخاً في الأرض وعلواً في السماء.

فلسطين في عُرف الأمة وفهمها، وفي ضميرها ووجدانها، أرضٌ عربيةٌ لسكانها العرب الفلسطينيين الذين قطنوها وعاشوا فيها، وشكلوا هويتها وصبغوها بطابعها العربي، الإسلامي والمسيحي، التي تظهر معالمه وتبدو آثاره في كل مكان منها، وتشهد لهم كل العهود التي مرت بها والدول التي عمرت فيها، وقد بنى أهلها العرب فيها حضارةً عظيمة جمعتهم ووحدتهم، وألقت بظلالها عليهم، ونطق بضادها سكانها والوافدون إليها، والتقى فيها العرب من كل الأصقاع، إذ لم تكن حدودٌ تفصلهم أو سلطاتٌ تمنعهم، وفيها دفن المئات من رجالاتهم العظام وأبطالهم الأعلام، الذين تحارب سلطات الاحتلال مقاماتهم وتنبش قبورهم وتغير أسماءهم.

وهي في كتاب الله عز وجل آيةٌ نتلوها آناء الليل وأطراف النهار، نذكرها ما فتحنا القرآن الكريم وقلبنا صفحاته، فهي جزءٌ من عقيدتنا، وركنٌ من إسلامنا، فيها مسرى رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماوات العلى، وفيها المسجد الأقصى الذي بارك الله فيه وحوله، وجعله أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وهي إرث الصحابة الأوائل ووصية الرجال والقادة الأماجد، الذين فتحوها ودافعوا عنها، وعاشوا فيها ودفنوا في ترابها الطاهر.

لا يوجد في الأمة العربية والإسلامية من ينسى هذه الحقائق أو ينكر هذه الوقائع، ويسلم بأن هذه الأرض ومقدساتها، وهذا التراب وآثاره، وهذه البلاد وحضارتها، إنما هي لليهود الوافدين وللمستوطنين المهاجرين، الذين جاؤوا إلى فلسطين غزواً واستوطنوا فيها احتلالاً، وإن كانت أفواجهم في أكثرها قد جاءت على هيئة مهاجرين فرادى وجماعاتٍ، شكلوا فيما بعد عصاباتٍ يهودية كثيرة، جعلت همها الأكبر طرد العرب من فلسطين، وإحلال اليهود المهاجرين إليها وتوطينهم فيها.

علماً أن الفكر الصهيوني يتجاوز فلسطين إلى دول الجوار، ولا يخفي أن عيون اليهود وأطماعهم مفتوحة على بلاد الرافدين والنيل، وأنهم يتمنون أن تكون حدود دولتهم بين النيل والفرات، بما يعني أن الخطر اليهودي ليس على فلسطين فقط، وإنما على الأمة العربية كلها.

لكن هذه الحقائق لا تمنع بعض الأنظمة العربية من الاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه، ولا تحول دون استقبالهم لقادته والترحاب بهم، ورفعهم علم الكيان وعزف موسيقى "الهاتكيفا" الإسرائيلية، وفتح أجوائهم الإقليمية لطائراته، والسماح لها بالتحليق في سماء بلادهم والهبوط في مطاراتهم، والتزود بالوقود فيها، فضلاً عن تسهيل دخول السواح الإسرائيليين أفراداً وأفواجاً، رغم علمهم أن أكثرهم ضباطٌ أمنيون وعسكريون متقاعدون، وأنهم لم يأتوا إلى بلادهم سواحاً بل جاؤوا إليها عملاء وجواسيس، وجنوداً متخفين، لخدمة كيانهم وتقديم خبراتهم له على حساب الدول العربية التي اعترفت به وطبعت معه.

هذا الواقع المعوج والمظاهر الغريبة المنبتة عن الأمة والمخالفة لقيمها، لن يدوم طويلاً، ولن يستمر إلى الأبد، ولن يرضى عنها أبناء هذه البلاد، الذين أغاظهم ما قامت به حكوماتهم، وأغضبهم ما أقدمت عليه أنظمة بلادهم، وسيأتي اليوم الذي تؤوب فيه هذه الأنظمة إلى رشدها، وترعوي عن غيها، وتتراجع عن سياساتها، وتعود أدراجها إلى عمقها العربي والإسلامي الأصيل، ولكننا نخشى أن تكون أوبتها بعد فوات الأوان، وعودتها بعد خسران ما كان، فهؤلاء سرطانٌ قاتلٌ، لا يتغلغل إلى جسدٍ إلا ليستنزف قواه ويضعفه، قبل أن يقتله وينهي حياته، ويشطب اسمه من سجل الأحياء، ويدفن جسده بعد أن يموت في جوف الأرض.

بيروت في 22/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

 

ــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك