مصطفى يوسف اللداوي ||
تحاول الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن إقناع الفلسطينيين أنها معهم وتؤيدهم، وأنها تدعمهم وتساندهم، وأنها تحرص على مصالحهم وترفض التضييق عليهم، وأنها تدعم مشروع حل الدولتين، وتؤيد حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولة متماسكة وقابلة للحياة، وتصف الممارسات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية بأنها ممارسات عنفية مرفوضة، وتندد بعمليات الاقتحام والقتل والاعتقال المستمرة، وتحمل رئيس الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عنها، وتعتبر أن هذه الإجراءات تؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وقتل فرص التوصل إلى سلامٍ دائمٍ وعادلٍ وشاملٍ بين الأطراف المتنازعة.
وتبدي الإدارة الأمريكية أنها تعارض سياسات الحكومة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وتدين مصادرة الأراضي وبناء مستوطناتٍ جديدةٍ وتوسيع القديمة وبناء وحداتٍ سكنية جديدة فيها، وتتهم حكومة نتنياهو بأنها حكومة يمينية متطرفة، وتطالبها بالكف عن مواصلة الاستيطان، وترفض شكلياً على خلفية سياساتها التعاون الإيجابي معها، وتمتنع عن استقبال وزرائها في عاصمتها وترفض اللقاء بهم، وتتلكأ في تحديد موعدٍ لزيارة رئيسها بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، وهي الزيارة التي يتطلع إليها ويتمناها ويحتاج إليها ويريدها، ليجلو صورته، ويثبت حكومته ويعزز سياسته، ويتصدى لمعارضيه ويفكك معسكرهم.
قد يبدو للبعض عند الوهلة الأولى أن الإدارة الأمريكية منصفة في مواقفها، وصادقة في سياساتها، وموضوعية في أحكامها، وأنها فعلاً تدين الحكومة الإسرائيلية وتنظر بعين "العدل" للشعب الفلسطيني، وتريد إنصافه وتعويضه، والتخفيف عنه ومساعدته، وأنها بهذه المواقف لم تعد الحليف الأقرب والأصدق للكيان الصهيوني، الذي يستغل تأييدها له في الإيغال أكثر في سياسات العنف والتطرف ضد الفلسطينيين، ويضرب عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية، ويحرجها أكثر بسياساته وممارساته العنصرية التي تدمر لب مشروعها للحل في المنطقة.
صحيح أن الإدارة الأمريكية رفضت استقبال وزراء المالية الإسرائيلي سموتريتش، والأمن القومي بن غفير والخارجية كوهين في واشنطن، وما زالت ترفض تنظيم زيارة دولة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وهو ما جعل البعض يظن أن تغييراً حقيقياً في السياسة الأمريكية قد حدث، لكن الحقيقة أن أشياء كثيرة أخرى يجري تنظيمها ويقع العمل بها بصورة مشتركة، منها الخفي ومنها المعلن، فقد شاركت في مناورة اللكمة القاضية، وعرضت فيها قدراتها العسكرية التي من الممكن أن تكون جزءاً من أي حربٍ قادمة، وحافظت على مشاركة الكيان في أي مناورة أخرى تجري في المنطقة بالتعاون مع بعض الدول العربية.
أما البنتاغون فما زالت تفتح أبوابها لكبار الضباط والمسؤولين العسكريين والأمنيين لمناقشة تطورات الملف النووي، وسبل التعاون المشتركة لإحباط النوايا الإيرانية بامتلاك أسلحة نووية، وإفشال مشاريع تطوير مفاعلاتها وتخصيب اليورانيوم، وتنسيق الجهود الأمنية والعسكرية بهذا الشأن، علماً أن هذا الملف المشترك يفتح على عشرات الملفات الاستراتيجية الأخرى، التي تعزز آفاق التعاون العسكري والأمني والتقني والتكنولوجي بينهما، والتي لا تبدي فيها الولايات المتحدة الأمريكية أي ترددٍ في التعاون مع الكيان الإسرائيلي، باعتبار أن مشروعهما واحد، وأن قوتهما مشتركة، وأن أهدافهما واحدة، وأنهما ينوبان عن بعضهما البعض في تنفيذ المهام الأمنية والعسكرية على السواء.
وفي الأشهر القليلة الماضية ضمت الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل إلى قيادة قوات المنطقة الوسطى، بما يجعل منها جزءاً من القوة العظمى ومستودعاً ضخماً للأسلحة الاستراتيجية الفتاكة، والعتاد العسكري اللازم للحروب والمعارك ومختلف أنواع العمليات في المنطقة، فضلاً عن مشاركتها في صناعة القرارات ورسم الخطط ووضع البرامج على مدى سنواتٍ قادمةٍ، وكانت قد عوضت قبتها الحديدية بعد الحروب الأخيرة على قطاع غزة مئات الصواريخ المضادة، نتيجة للنقص الفادح الذي أصاب منظومتها الحديدية.
بمقابل إغداق العطاءات وسخاء التقديمات للكيان الصهيوني، فإن الإدارة الأمريكية تلقي بالفتات من المساعدات للفلسطينيين، وتقوم بتوزيعها على بعض المؤسسات الصحية والتعليمة المحدودة، وتفرض عليها شروطها وتقوم بمراقبتها ومتابعتها، وأحياناً بمحاسبتها ومعاقبتها، وتكتفي بتقديم الدعم اللافت للأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تقوم بتقديم خدماتٍ مباشرة للاحتلال الإسرائيلي من خلال عمليات التنسيق الأمني المشتركة التي يشرف عليها ضباط أمريكيون كبار، ويصرون على الاستمرار بها وعدم تجميدها أو وقفها مهما كانت الأسباب.
أما زيارات المسؤولين الأمريكيين الكبار إلى الكيان الصهيوني فهي لا تتوقف، وتنفذ وفق برامج وخطط معدة مسبقاً، وهي زياراتٌ متعددة الأشكال والمستويات والتخصصات، يشارك في بعضها إلى جانب المبعوثين السياسيين إلى المنطقة، والمشرفين على مسار العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، ضباطٌ عسكريون وأمنيون كبار، منهم قادة قوات المنطقة الوسطى التي أصبحت إسرائيل جزءاً منها، إلا أن أحداً من هؤلاء الزوار الكبار لا يزور مقر المقاطعة الفلسطينية في رام الله، وفي حال قام بعضهم بزيارتها ولقاء رئيس السلطة الفلسطينية، فإن مدتها تكون قصيرة، وملفاتها محدودة، والتعهدات والوعود فيها قليلة، لكن الوصايا فيها كثيرة، والتحذيرات الموجهة إليها عديدة، لجهة محاربة العنف، وملاحقة النشطاء وتحييد الخطرين، وتفعيل التنسيق الأمني، والعمل على ضبط الأمن في المنطقة.
تلك هي الحقيقة التي يجب أن ندركها وألا نغفلها، فالولايات المتحدة الأمريكية، أياً كان ساكن البيت الأبيض فيها، لا تهمها سوى المصالح الإسرائيلية، ولا يعنيها الشأن الفلسطيني إلا بما يضمن الأمن للإسرائيليين ويحفظ وجودهم ويحقق سلامتهم، وفي مقابل ذلك فإنها تخدر الفلسطينيين بوعودٍ خلابةٍ كاذبةٍ، وتمنيهم بأماني معسولةٍ مخادعة، وتتعهد لهم بسلامٍ ذليلٍ وكيانٍ هزيلٍ، وتتعهد لهم بمشاريع لا تؤمن بها، أو تعجز عن تنفيذها، ورغم ذلك فإن البعض للأسف ما زال يؤمن بها ويثق، ويراهن عليها ويعتمد، وهو يعلم أنه لا يتوقع منها غير الرياح يحصدها والأشواك يجنيها.
بيروت في 20/6/2023
moustafa.leddawi@gmail.com
ــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha