سوريا - لبنان - فلسطين

في ظلال طوفان الأقصى "12" لك الله يا غزة الأبية في ليلة السبت الدموية


د. مصطفى يوسف اللداوي ||

 

لم تكن ليلة أمس السبت الثانية والعشرون للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ليلةً عاديةً، بل كانت استثنائيةً لا تشبه سابقاتها إلا في حجم الغارات الصاروخية والمدفعية، الجوية والبرية والبحرية، التي استهدفت كعادتها على مدى الأيام السابقة، المنازل والتجمعات السكانية، والعائلات الهاربة من القصف المجنون والقتل المتنقل، والباحثة عن أماكن آمنة غير موجودة، واللاجئة إلى مقراتٍ دوليةٍ ومؤسساتٍ أمميةٍ غير محميةٍ، في محاولةٍ إسرائيلية يائسة وبائسة لتسجيل صورة نصرٍ زائفٍ، وتحقيق إنجاز كاذب، عبر مسلسلٍ متواصلٍ من أعمال القتل والتدمير والإبادة.

إلا أن ليلة أمس السبت كانت أكثر عنفاً وأشد دمويةً، وأقسى قصفاً وأكثر تدميراً، وأوسع نطاقاً وأشمل سلاحاً، في ظل عملية تعتيمٍ وتعميةٍ شاملةٍ، قطعت خلالها سلطات الاحتلال خدمات الهواتف السلكية وعطلت الشبكات الخلوية، وسبقت بوقف إمداد القطاع بالكهرباء، وقصفت محطاته ودمرت شبكاته وقطعت أسلاكه، فغدا قطاع غزة من شماله إلى جنوبه كتلة ظلامٍ دامسٍ، لا أنوار فيه ولا إضاءة، ولا مشافي تعمل ولا مؤسسات دفاع مدني تشتغل، وعزل القطاع كلياً عن العالم الخارجي، وحيل بين من فيه من المواطنين والأجانب، والمراسلين والإعلاميين، والمقيمين والمبعوثين وبين مرجعياتهم في مختلف أنحاء العالم.

غرقت غزة من شمالها إلى جنوبها في الظلام الدامس، وغابت الصورة واسودت شاشات التلفزة، وتوقفت أجهزة البث وتعطلت وسائل التواصل الاجتماعي، وسكت الإعلاميون، وحار المراسلون، وعجز النشطاء والفاعلون عن التواصل، وانقطعت الاتصالات بين الأسر والعوائل، وقلق الفلسطينيون على أهلهم، ولم يناموا ليلتهم، وبقوا يقظين لا تغمض عيونهم، ولا ترتاح عقولهم، وتضطرب قلوبهم وجلاً وخوفاً.

أدرك الفلسطينيون أن العدو قد خطط لهم ودبر، وتآمر عليهم وحَضَّرَ، وأطلق العنان لآلات القتل الهمجية التي جهزها لهذه الليلة، تقصف من كل مكان، وتقذف بالحمم على كل مكان، فتقتل وترعب، وتدمر وتخرب، وتشعل الأرض ناراً وتحرق البيوت، في محاولةٍ يائسةٍ منه للقيام بعمليات اجتياحِ لأطراف القطاع محدودة، ظاناً أن المقاومة الفلسطينية ستسمح له، وستسكت عنه، ولن تقوى على مواجهته، ولن تستطيع صده، وستسلم أمام ضراوة غاراته.

خطط العدو لهذه الليلة العاصفة جيداً، واستعدت قواته لها كثيراً، وأَمَّلت نفسها بالنجاح، ووطنت نفسها على البقاء في المناطق التي تجتاحها، والاحتفاظبالشريط الحدودي الذي تدخله، وأرادت حكومته أن تنفذ جريمتها بصمتٍ وخفاءٍ، بعيداً عن عيون العالم ووسائل الإعلام، خوفاً من الرأي العام الدولي الذي لا تأبه به ولا تهتم له، إذ أنها مطمئنة إلى التحالف الذي شكلته الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عن كيانها، وضمان أمنه وتفوقه، واستمرار دعمه ومساعدته، فكثف جيش العدو قصفه الأعمى، وركز في عملياته الحربية على شمال القطاع وشرقه، ولم ينس قصف وسطه وجنوبه.

عاش الفلسطينيون ليلةً قاسيةً جداً، قدموا فيها مئات الشهداء والجرحى، ولم يتمكنوا من دفن شهدائهم ونقل جرحاهم إلا بصعوبةٍ بالغةٍ، إذ لا سيارات إسعاف ولا جهاز دفاعٍ مدني، ولا وقود ولا سياراتٍ مدنية، ولا وقف للقصف ولا مناطق آمنة، لكنهم صبروا واحتملوا، وإن بكت عيونهم فقد عضوا على الجرح وكتموا الآهة وأخفوا الحزن، وقاموا بوسائلهم البسيطة، وأيديهم العارية، وأجسادهم الضعيفة التي اعتراها النحول بعد حصار الجوع والعطش والحرمان من الدواء والكهرباء، بدفن شهدائهم وإن لم يعرفوا هوياتهم ويميزوا عائلاتهم، ونقلوا إلى المستشفيات جرحاهم حملاً على الأكتاف أو جراً على العربات، وهم يعلمون أن الكثير منهم سيلحق، إذ لا يوجد في المستشفيات ما ينفع، ولا يتوفر فيها ما يعالج جرحاً أو يخفف ألماً.

طلع الصباح ولاحت تباشير الفجر، واستيقظت غزة العزة الأبية، وأشرقت الشمس عن شعبٍ صامدٍ، ومقاومةٍ حاضرة، وقدراتٍ على الصد كبيرة، وخاب العدو وخسيء، واكتشف أنه ما زال على الحدود يقف، وأنه لم يخطُ إلى الأمام خطوةً واحدة، وأن القصف الذي قام به لم يسعفه تقدماً، ولم يحمه من ضربات المقاومة وقذائفها، ووجد دباباته مدمرة، وآلياته معطوبة، وعرباته محترقة، وجنوده على الأرض مجندلين، يجر من بقي منهم حياً ونجا أذيال الخيبة، يروي لمن ينتظره هول ما رأى، وفظاعة ما جُهزَ لهم إن حاولوا الدخول، وفداحة الثمن الذي سيدفونه إن غامروا بالتسلل أو فكروا بالاجتياح. 

 

بيروت في 28/10/2023

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك