حسن شقير كاتب وباحث سياسي لبناني
مرّت العلاقات الأمريكية – السورية بالكثير من المحطات المفصلية , والتي كانت سمتها ,مداً وجزراً , ضمن العهود الأمريكية المتعاقبة
من ديموقراطية إلى جمهورية , لتتأرجح هذه العلاقة صعوداً وهبوطاً , وذلك بحسب تقلبات الإستراتيجية الأمريكية المعتمدة من قبل هذه الإدارات المتعاقبة في كيفية ” ردع الخصوم أو زجرهم أو حتى احتوائهم”.
تدحرجت تلك العلاقة كأشبه بكرة ثلج تطايرت أجزائها , وذلك عندما وصلت أمريكا إلى اقتناع راسخ بأنه لا جدوى في العودة مع سوريا إلى تكتيك التفاوض المباشر وغير المباشر , لأن ذلك غير مُجدٍ لقلب الثوابت السورية … وكذلك أن التهديد بالعصا في زمن الهزائم الصهيونية والأفول الأمريكي , قد غدا غير ذي جدوى … وأن سياسة التحايل وإظهار اللين , والإنخراط البنّاء في الحوار مع دمشق , لن يزيد هذه الأخيرة إلاّ مزيداً من التمسك بثوابتها وموقعها الإستراتيجي في قلب محور الممانعة .
أمريكا – سوريا – تركيا
لأجل ذلك كلّه , اتخذت أمريكا قراراً مبرماً , بضرورة التخلّص من نظام الرئيس الأسد , وبأية طريقة كانت – عدا الحرب المباشرة – فركبت موجة الحراك الشعبي , ومن ثم موجة الإعتدال تارةً , والإرهاب أطواراً أخرى في سبيل تحقيق حلمهم , وحلم الصهاينة الإستراتيجي في سوريا ..
اليوم , وبعد كل التطورات الميدانية على الأرض السورية , والتي قلبت المشهد فيها لصالح النظام والدولة السورية بشكل مطلق , تقف أمريكا عند مفترق طرق في ممرٍ إجباري , لا تسطيع فيه المجازفة بإعادة إضفاء ما تُسميه الشرعية للنظام السوري … فهذا أمرٌ مستبعد لعدة عوامل أمريكية داخلية , وأيضاً صهيونية , وحتى دولية , وبعض من العوامل العربية المرتبطة حصراً بمصالح أمريكا في المنطقة ….فهي , والحال كذلك مضطرة إلى السير بأحد هذين الطريقين :
إمّا تُشجع حلفائها على تفعيل التسليح والتدريب لكل من تسميهم المعتدلين ( إرهابيي الأمس ) الجدد , وانتظار نتائج المعركة , وهذا ما تُفسرّه اليوم المعركة الجديدة التي فُتحت في الريف الشمالي للاذقية على الحدود مع تركيا , والتي يبدو أن مشاركة تركيا المباشرة فيها , يأتي كنوع من تجديد لدورها في الحرب على سوريا , وليكون ذلك مقدمةً لإعادة تقديم أوراق أردوغان السياسية إلى الإدارة الأمريكية , على حساب غريمه فتح الله غولن وجماعته المرتبطين بأمريكا على أبواب الإنتخابات البلدية في تركيا … وليكن ذلك تعويضاً عن الفشل السعودي في جبهات سوريا الأخرى … وبعد ذلك تبني أمريكا على الشيء مقتضاه … وفي هذه الحالة فإن ما تخشاه أمريكا , ليس كما يُشاع وقوع سوريا في أيدي الإرهابيين , لأن هؤلاء وجهتهم لم تكن يوماً الكيان الصهيوني , وإزالته من الوجود , وذلك ما تثبته أفعالهم المنفصلة تماماً عن أدبياتهم .. إنما سيكون هلعها الحقيقي من إمكانية الإنتصار الباهر لمحور الممانعة في سوريا , وبالتالي تحمّل تداعيات تلك النتيجة الإستراتيجية على الكيان الصهيوني والمنطقة وحلفاء أمريكا فيها , لا بل نجزم أيضاً على وزن التكتلات في النظام العالمي الجديد برمته …
وبالتالي فإن صمود سوريا مجدداً من خاصرتها التركية , سيفرض على أمريكا سلوك الطريق الثاني … وهو أنها ستسعى لتتلقف من جديد سلم نجاة روسي , يُخفف من وقع الهزيمة الجديدة في الميدان السوري , وذلك يتم ربما عبر جنيف 3 جديد يكون سقف التنازل الأمريكي فيه عدم الإعتراف السياسي ببقاء وشرعية النظام في سوريا , وفرض نوع من العزلة السياسية على النظام السوري فيما تبقى من عمر الإدارة الأمريكية الحالية , وذلك تُقدَّمه أمريكا لحلفائها بأنه التزامٌ أمريكي لم تحد عنه … بحيث يمكن لها ساعتئذٍ , تحميلهم وحدهم مسؤولية بقاء النظام بسبب عجزهم في الميدان السوري عبر أدواتهم .
الكيان الصهيوني – سوريا – روسيا
لقد انتهيت في مقالتي السابقة ( ما بعد يبرود والجولان .. دلالات استراتيجية ) , إلى أن نصر يبرود الذي تحقق مؤخراً , وإفشال محور الممانعة – وبشكل مسبق – للهدف الصهيوني من إقامة ” الجدار الطيّب ” على تخوم الجولان المحرر , سيضع الكيان الصهيوني أمام معضلة الإنتظار المخيف للتحولات الإستراتيجية في الميدان السوري , بعد أن كاد يسقط من يديه حلم الإستنزاف المديد لمحور الممانعة في تلك الحرب .. أو أمام اندفاعه بحربٍ , كَثُر الحديث عنها مؤخراً لتعديل موازين القوى على الأرض السورية لصالح الإرهاب على حساب الدولة السورية , وبالتالي إمّا يُعوَّم الإستنزاف مجدداً , وإما يكون الخلاص الأخير من النظام في سوريا , وحتى لو كان ذلك لصالح القاعدة وشياطين الأرض كما عبّر مؤخراً عاموس يادلين رئيس شعبة الإستخبارات السابق ..
ولكن السؤال اليوم : ماذا لو فشلت تركيا مجدداً , كما فشل خصومها وحلفائها بالأمس من دول تحالف العدوان على سوريا ؟
لقد فندنا بأكثر من مقالة سابقة , أن العودة الصهيونية لإعتماد الإستراتيجية الهدّامة , للحفاظ على إستراتيجيته الإنطوائية الحالية , هو أمرٌ ليس بمضمون النتائج لصالحه … فهل يمكن للكيان الصهيوني أن يكون أمامه خيارٌ ثالث يقيه تجرُّع أحد السيناريوهين أعلاهما ؟
الصورة عن الوضع في سوريا لدى الكيان الصهيوني – لغاية اليوم – سوداوية .. ولا نعتقد أن في ذلك مبالغة ؟ كيف؟
-أهداف العدوان على سوريا أسقطت , من فشل إخراج سوريا من محور الممانعة , إلى الفشل في عزل المقاومة سياسياً وأمنياً ..أو حتى محاصرتها وإضعافها وضرب بيئاتها الحاضنة , وما الإنجازات الأخيرة في سوريا ولبنان إلاّ دليلاً إضافياً على فشل تلك الأهداف , وكذلك الفشل في إثارة حرب ببعدٍ مذهبي , فلم تستطع دول تحالف العدوان على سوريا إلصاق التكفيريين بالأمة الإسلامية … فأفعال هؤلاء الشنيعة جعلت من الأمة تلفظهم وترفضهم .. ليصل الأمر إلى تيرُؤ بعض ولاة الأمر منهم !
-خروج المقاومة وسوريا من ستاتيكو ما قبل أذار من العام 2011 , والذي كان قائماً على معادلة الهدوء في جبهتي الجنوب والجولان , مقابل مراكمة القوة في المحور الممانع , وإحياء استراتيجية التحرير – ولو غير المعلن والبطيء لغاية اليوم – للأرض المحتلة في الجنوب والجولان … والتخلّي عن استراتيجية الرد على العدوان الصهيوني المتكرر في جبهات القتال السورية فقط , بل تعداه الأمر إلى زعزعة أمن الكيان الصهيوني في مقابل عبث هذا الأخير بالأمن الممانع
-إرسال رسائل أمنية إلى الكيان الصهيوني في مقلبي الضفة الغربية , وقطاع غزة على حد سواء …وبث اليأس لديه من الركون لإستراتيجيته القائمة على ” استقرار الطوق ” لديه …
ماذا بعد كل هذا الفشل السابق في القلمون والجولان , وربما اللاحق في اللاذقية ؟
من الممكن –إذا ما زال بعض من العقل موجوداً في الكيان الصهيوني – أن يكون البديل المتاح عن اندفاعة هذا الكيان بشن حرب على سوريا , لا يعرف شعاعها ولا نتائجها , أن يطلب من روسيا تحديداً ,الترويج لدى محور الممانعة لإحياء تفاهم نيسان للعام 1996 على مختلف الجبهات مع حدود الكيان , وذلك ربما يكون بمثابة سُلّم نجاة لديه من خوض مغامرة عسكرية , لا يضمن فيها الدخول الأمريكي المباشر فيها في حال مالت الكفة في نتائجها لغير صالحه , وذلك نظراً للحساسية الأمريكية المفرطة التي تعيشها أمريكا اليوم من الدخول بأية مغامرة عسكرية جديدة , قد تجرُّ عليها المزيد المزيد من فقدان الدور والنجومية في العالم بأسره…
السؤال : كيف سيكون الموقف الروسي ؟ وخصوصاً بعد انسداد الأفق السياسي لغاية اليوم حيال الأزمة الأوكرانية …
وضمن أي مسارٍ ستسير به السياسة الروسية في سوريا , بعد ذاك الكباش المستجد مع الغرب وأمريكا ؟ فالمعطيات توحي بأن روسيا أضحت أكثر تشدداً حيال الملف السوري .. وبالتالي كيف سيكون رد الفعل عند أطراف الممانعة ؟ وضمن أية شروط حينها قد توافق على ذلك ؟ و خصوصاً أن اللعب الصهيوني ومعه التركي قد أصبحا على المكشوف تماماً … فالتطورات الميدانية – ولغاية اليوم – تشي بأن هؤلاء وأمريكا ومعهم كافة دول تحالف العدوان على سوريا ما زالوا يعتقدون أنه بالإمكان الإستمرار بمشروع الإستنزاف لسوريا ومحور الممانعة لأمد طويل … هذا بحده الأدنى , وأن هدف إسقاط الدولة السورية ما زال لغاية اليوم يُدغدغ أحلامهم , في حده الأقصى ….
نختم دائماً بأن الميدان هو الفيصل في لعبة السياسة الدولية , والحرب على سوريا , وكذا اللاعبون فيها من تحالف العدوان عليها , يقفون جميعاً اليوم عند مفترقات الطرق .
12/5/140326