حسين غباش .
بدأت روسيا تنهض مجدداً. اقتضى ذلك عقد ونيف وزعيم مصمم. مرحلة يلتسين كانت مرحلة الانهيار الأكبر. ربما يمكنها استعادة شيء مما خسرته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. تبقى القوة الثانية في العالم، وهو أمر ضروري للتوازن والسـلم العـالمي. لكن القوة وحدها لن تعطيها المكانـة الممـيزة ناهيك عن المهابة. ما سيميزها هو توظيف القوة لدعم القضايا العالمية العادلة والمحقة، عندها فقط يكون للقوة روح معنوية ولبوس أخلاقي، وتكون روسيا دولة عظمى وليست قوة عظمى كالولايات المتحــدة. وشتان بين المفهومين. الاختلاف بين المفهوين هو في جوهر الأمور، في طبيعة الرؤى، الاختلاف، أولا، في الرؤية للإنسان والعالم. وثانيا، في مفهوم الحق والعدل. في مفهوم السلام والحرية. في مفـهوم الوطن والتاريخ. الأول، ينظر للإنسان كإنسان، بما يعنيه ذلك من ثقافة وقيم وأديان ومعتقدات الخ. والثاني، ينظر إليه كفرد، بمعنى رقم، ويمكن الاستغناء عنه اذا لم يكن ضروريا لآليتهـا الاقتصادية. بالنسبة للأولى، السلام والاستقرار ضرورة للتنمية وتقدم الشعوب، بالنسبة للآخر، الحروب والأزمات ضرورة لتكريس الثروات المادية والتوسع على حساب كل شيء، بما فيها الشعوب. والقائمة تطول.
هكذا، مثل موقفها الفاعل من سوريا الخطوة الاولى الضرورية لهذا النهوض. هي نهضت وسوريا بكل عثراتها صامدة. سوريا بالطبع حليفها التاريخي، كما كان العراق في الأمس القريب، لكنها استندت في دعمها دمشق ليس على مقتضيات التحالف الإيجابي وحده، بل إلى القانون الدولي والأعراف. هذا الذي غالباً ما يتجاوزه الغرب، وهو الذي كتبه ويضيف إليه ما يشاء، ولا يذكره إلا عندما يخدم إستراتيجياته التوسعية.
التدخل وفصل السودان مثلا, في ظل سياسات الاسلامويين الجاهلة، وقبلها «الفوكلند»، تيمور الشرقية، وكوسوفو. كانت في نظر الغرب أنفصالات مشروعة. لكن عندما صوت أهل القرم طوعاً بنسبة فاقت الـ90 في المئه، فذلك مخالف للقانون الدولي. قضية القرم قضية واضحة. مثل «الفوكلند» تماماً. الإولى عادت إلى أصلها متوجة بالعزة الوطنية، والثانية بُترت بتراً من وطنها الأرجنتيني وألبست هوية استعمارية. وكغيرها ستبقى «الفوكلند» شاهداً على العبث بحقائق التاريخ والجغرافيا. هي شاهد على العبث بالعدالة وحقوق الشعوب وسيادتها. تحولت ازدواجية المعايير والانتقائية في الأحكام والممارسات إلى وجه من وجوه الإمبريالية. وهو نهج أصيل من سياسات الهيمنة. وفرضت معادلتها المكافيالية. القوة تحدد الحق. الوجه الوحيد الذي تحاول قوى الشر إظهاره هو أنها تتبع سياسات «عملية»، اشتهرت بها، عندما تقتضي الضرورة ذلك. بيد ان «عملية» لا تعني عادلة أو محـقة، لا تعـني الاتزان والحنكة في الأمور. لأنه بنظر هذه القوى، الحصارات، الهيمنة، وتقسيم الدول والشعوب من السياسات «العملية». العقل العملي، إذا، ليس بالضرورة عقلاً أخلاقياً، بل عقل قد يكون مرناً لكنه خبيث ومراوغ. معجم الرأسمالية هو من السياسات «العملية».
لم يستفد الغرب من تجربة جورجيا. هذا الغرب لا يتعلم. لا يتغير، ولا يغير سياساته أو لغته. من يستمع إلى خطاب مسؤوليه يدرك ذلك جيداً. الغرب غرب. ليس بالمفهوم الجغرافي, بل بالمفهوم الكولونيالي. ذلك الغرب الذي ارتبط اسمه بالعبث بمقدرات البشرية وكرامتها، وأتت «القرم» لتكمل الخطوة الثانية، واستعادة روسيا مكانتها من جديد بعد ثلاثة عقود من سقوط الاتحاد السوفياتي.
إنه لمن اللافت حقاً، بأنه مع الحضور الطاغي لمؤسسات الإمبريالية المختلفة، الاقتصادية، مؤسسات «برتون وودز»، منظمة التجارة العالمية والإعلام المدمر، الذي وصفته فولبرايت بالعضو السادس في مجلس الأمن، وأكثر من مئة قاعدة عسكرية حول العالم، ومع تغلغل العولمة وانتشار الثقافة الإمبريالية، فإن مكانة أميركا كقطب أوحد لم تستمر طويلا. منذ بدء العقد الثالث بعد سقوط برلين، شهدنا تحولا لافتا في العلاقات الدولية ومراكز القرار. واشنطن ولندن وباريس لم تعد المراكز الوحيدة، ولم تعد مخولة أو مقبولة لإدارة العالم. لم يخرج من هذه العواصم الاستعمارية قرار واحد ذكر جلب السلام للعالم أو خدم الانسانية بشكل ما.
اليوم، هناك دول تسعى إلى الانعتاق من كل أشكال الهيمنة وتمتلك قرارها وسيادتها من دون نقصان. منها من يحمل إرث مانديللا، وثانية تسير بأخلاقيات داسلفا، والثالثة تسكنها روح غاندي. وهنـاك الصين، وإن غاب عنها ماو، فهي حاضرة. كلها تسعى لخلق فضاء إنساني وعالم يسوده شيء من العدل والسلام.
استعمال الروس لحق الفيتو ثلاث مرات لمصلحة سوريا كان شبه ضربات الملاكم لخصمه، وآخر لمصلحة القرم. وكان بمثابة الإعلان الرسمي لحضور روسيا كقوة عالمية ثانية على المشهد الدولي. لن تمر الحروب الإمبريالية عبر مجلس الأمن بعد اليوم. والقرم ليست الا الخطوة الأكبر. هي اعلان لبداية صراع جديد. بين من يرى في التمسك بالشرائع والقوانين قوة له، وبين من يرى في خرقها امتيازاً خاصاً به. ومنطقة النفوذ السوفياتية القديمة، شئنا أم أبينا، هي منطقة نفوذ روسيا الجديدة، لا بمفهوم التوسع والأطماع، ولكن بالمنطق الجيوسياسي.
الصراع اليوم ليس بين النظام الشيوعي والنظام الرأسمالي. اعتقد من اعتقد بأن نهاية الاتحاد السوفياتي، أي نهاية النظم الاشتراكية، سينهي الصراع بين الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة ونظم السوق الليبرالية الجديدة. لان «العدو» التقليدي لم يعد عدوا ولم يعد ثمة خصم أيديولوجي، وهناك أسس اقتصادية متشابهة من حيث الجوهر. العالم دخل فضاء «السوق الحر»، ويحتكم بشيء من قواعد وسياسات الليبرالية. وتوهم البعض بحلول مبدأ التعاون والتآخي البديل للحروب والاعتداءات. لكن نظرية نهاية التاريخ السطحية سقطت سريعا. وقد اعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي وصفه بوتين بأكبر انهيار جيوسياسي في التاريخ، تسبب بانهيار التوازن العالمي، انتصاراً للإمبريالية الأميركية.
وفعلا، كانت المرحلة الأسوأ في التاريخ الحديث: تركت أميركا بصماتها على خرائط العالم النامي من أقصاه الى أقصاه. وكان للعالم العربي الدمار الأكبر. أكثر الدماء التي سالت كانت دماء عربية, وخاصة في العراق، الذي ينزف منذ ما يزيد من عشرة أعوام طويلة ومضنية، ولا ضوء في نهاية النفق. كان، بكل التقديرات، أسوأ اعتداء أميركي، بعد فيتنام، في تاريخها المعمد بالدم. وأوباما يدافع عن النبل الأميركي في إبقاء العراق «موحداً». ماذا يريد العرب أكثر من ذلك؟
التاريخ لن ينتهي بانتهاء الاشتراكية، ربما سينتهي بنهاية الرأسمالية. لا ندري، لنترك ذلك للمستقبل. لكن الصراع سيستمر. ما دام هناك إمبريالية هناك حروب، وطالما هناك رأسمالية متوحشة هناك أزمات اقتصادية وبؤس. لندع أفريقيا جانباً، مجرد التأمل في ما آلت اليه الاوضاع في اليونان يكفي لإدراك هذه الحقيقة. الرأسمالية بطبيعتها منتجة لذلك.
وختاماً أستعير ما قاله مسؤول روسي عندما سأله احد الصحافيين: ماذا ينصح المسؤولين الغربين بفعله تجاه ضم القرم، رد قائلا، ماذا أقول لهم؟ انصحهم «باستنشاق الهواء النقي، وممارسة «اليوغا» وأكل الغذاء الصحي».
23/5/140409