سامي كليب.
الدول التي لا صناعة محلية فيها تلجأ إلى التجميع. تستورد القطع من الدول الصناعية وتجمِّعها محلياً، فيبدو الأمر صناعة وطنية وهو ليس كذلك. هنا الوهم يتغلب على الحقيقة. ينطبق الامر، هذه المرة وفي كل مرة، على الرئيس اللبناني. منذ الاستقلال، ندر أن انتُخب رئيسٌ من دون تدخل خارجي. هذه ثابتة لبنانية.
لحسن الحظ أن في لبنان بعض الثوابت. المتغيّر الوحيد هو نسبية هذا التدخل. إما ان يكون خجولاً ومستتراً، أو صارخاً ووقحاً. في الحالتين التدخل هو الذي يأتي برئيس.
منذ الاستقلال، أيضاً، يخترع ساسة لبنان مفردات لدفن رأس النعامة في الرمال. يزيّنون للشعب، الصابر على كل مصائبهم ونهبهم وطائفيتهم وفسادهم، شعارات المرحلة المقبلة. يقولون مثلاً، ومن دون أن يرف لهم جفن، إن الرئيس المقبل سيكون أفضل مما سبق، وإن التدخلات الخارجية لن تنجح. نعم، هكذا وبكل بساطة، وبعد ان ضحكوا على الشعب الصبور ببدعة «النأي بالنفس» عن الحرب السورية، ها هم يؤكدون ان الرئيس العتيد سيكون «صناعة لبنانية». ممتاز ولكن كيف؟
هل يعقل، مثلاً، ان يأتي رئيس لبناني مناهض لسوريا؟ أكيد لا. الأسباب كثيرة، أولها ان حلفاء سوريا في لبنان يبدون أكثر انتعاشاً وقوة من الأعوام الثلاثة الماضية. أسباب هذا الانتعاش تتعلق خصوصاً بتقدم الجيش السوري وحلفائه على الارض السورية. لعل الإنجاز الأبرز تجلّى في حمص. ليس سهلاً ان يتحول معقل «الثورة» الى صندوق اقتراع لإعادة انتخاب الرئيس بشار الاسد رئيساً لولاية ثالثة. لم يتحقق هذا الإنجاز الا بعد تضافر عوامل كثيرة: بعضها عسكري ترافق مع نجاح الحصار. بعضها الثاني سياسي تفاوضي محلي وإقليمي بغطاء دولي قد تكشف أسراره يوماً ما. بعضها الثالث تناحري بين فصائل المعارضة نفسها. يكفي أن يقرأ المرء ما كتبه، مثلاً، المعارض ميشال كيلو قبل أيام في جريدة «الشرق الأوسط»، ليفهم شيئاً من الحاضر القاتم للمعارضة وفصائلها المسلحة. صارت أنباء تذابح هذه الفصائل تطغى على أنباء قتالها ضد الجيش السوري وحلفائه.
هل يعقل، ثانياً، ان يأتي رئيس مناهض للسعودية وحلفائها؟ أكيد لا. حلفاء المملكة في لبنان قادرون على تعطيل الانتخابات الرئاسية، تماماً كخصومهم من حلفاء سوريا وايران. المرحلة تعيش توازناً دقيقاً جداً.
هل يعقل، ثالثاً، ان يأتي رئيس مناهض للمصالح الغربية وفي مقدمها الاميركية والفرنسية؟ بالمطلق لا. لو حصل العكس، فإن التعليمات التي تصدر عادة من السفارات الأجنبية كافية لقلب الطاولة، حتى ولو حصل خرق للدستور والاستحقاق والمواعيد. يزداد هذا التدخل الدولي بسبب الحرب في سوريا. يزداد أكثر على وقع الاكتشافات الغازية عند السواحل اللبنانية. قد يتفاقم أكثر فأكثر في محاولة لإضعاف الدور الروسي في المنطقة. لموسكو، اذاً، هذه المرة مصلحة أيضاً برئيس لبناني اكثر قرباً من حلفائها. كلما قال الغرب إنه لا يتدخل في لبنان، اعلموا أنه في ذروة تدخله.
حتى الساعة لا يوجد مرشح يتمتع بالقدرة على جمع كل هذه التناقضات. لعل العماد ميشال عون يبقى، بين المرشحين الحاليين، الأوفر حظاً لجمع بعض هذه التناقضات. يفترض ذلك تعديل مناخ تيار المستقبل ومن خلفه السعودية. صدرت، في الايام القليلة الماضية، مؤشرات إيجابية من فريق الرئيس سعد الحريري. لا تزال مجرّد مؤشرات، لم تتحول الى صفقة. ثمة مطالب حريرية تطرح في حاجة الى التزامات عونية.
اي مرشح يخرج عن التفاهمات الاقليمية والدولية لن يمر. لا يوجد طرف قادر على الانتخاب لوحده، لكن كل الأطراف قادرة على التعطيل. لو حصل غير ذلك وانحرف فريق عن هذا المسار وأحدث تحولاً مفاجئاً، فسيكون في الامر مشروع مشكلة كبيرة محلية وإقليمية.
الناظر الى المنطقة حالياً وانعكاس قضاياها على لبنان وانتخاباته، يرى أمرين متناقضين ولكنهما متوازيان: أولهما تأزم في ذروته خصوصاً بين الغرب وروسيا بسبب اوكرانيا او على الساحة السورية. ثانيهما انفراجات خجولة تمثل بعضها بتواصل بعيد عن الاضواء بين ايران والسعودية يتجلى في حركة السفير السعودي في طهران وفي الزيارة القريبة للرئيس السابق هاشمي رفسنجاني الى الرياض. ظهر بعضه الآخر بتشكيل الحكومة اللبنانية وتطبيق الخطة الامنية، ثم ظهر أبرزه في حمص. حمص قصة استراتيجية كبيرة، لا بل وكبيرة جداً في سياق البحث عن تفاهمات.
لا بد ان يستكمل ذلك بتفاهم على رئيس لبناني. قد لا يتم الامر قبل 25 أيار، وقد يتم. هذا مهم. ولكن الأهم ان الرئيس العتيد لن يكون بالمطلق صناعة لبنانية، وإنما عبارة عن قطع اقليمية ودولية يتم تجميعها في لبنان. من يقول غير ذلك مشكور على براءته. ولكنه لا شك إما حالم أو قصير نظر.
11/5/140512