عقيل الشيخ حسين
في ظروف الأزمة التي يمر بها عالمنا العربي اليوم، هنالك من ينفخ في نار الحلول الكونفدرالية ويقدمها على أنها خشبة الخلاص الوحيدة الممكنة. لكن هذه الحلول، فيما لو تحققت، لن تكون غير خطوات نحو المزيد من التجزئة والتفكيك على طريق التذويب الكامل الذي يشكل الهدف الأقصى للمشروع الصهيو-أميركي.
حدث للعرب، شعوباً قبل الحكام، أن تجادلوا طويلاً في أواخر الخمسينيات وبدايات الستينيات، حول ما إذا كان عليهم اعتماد خيار "الوحدة" أو خيار "الاتحاد" من أجل النهوض بالبلاد والعودة إلى "سابق الأمجاد والعز". وبعد انهيار الحلم الوحدوي وانقشاع الوهم على وقع الهزيمة-الصدمة غير المنتظرة أمام الكيان الصهيوني، تجادلوا طويلاً، وارتفع الجدل إلى مستوى العراك، حول ما إذا كان عليهم أن يدخلوا في حل سلمي مع هذا الكيان، أم أن يشنوا عليه حرباً شعبية طويلة الأمد...
ولم يقتصر الجدل على هاتين المسألتين، لأن سلاسل الجدل كانت وما زالت تمتد بلا نهاية حول كل مسألة كبيرة أو صغيرة لتسهم في دفع الأوضاع إلى حالة التردي التي وصل إليها العرب حالياً في ظل الربيع العربي وإفرازاته الإرهابية التكفيرية. ويبدو اليوم أن جدلاً طويلاً سيتفجر، وهو قد بدأ فعلاً بالتفجر، حول ما إذا كان على العرب أن يواجهوا الوضع المتردي الحالي عبر اللجوء إلى الحلول الكونفدرالية أو عبر إبقاء الحدود والأوضاع القائمة على ما هي عليه.
والواضح أن هذا الجدل قد بدأ يشق طريقه نحو مسرح الحياة السياسية على هامش ما يشاع عن وجود مشروع أميركي-صهيوني لتقسيم المنطقة العربية إلى كيانات طائفية وإتنية ومناطقية. وقد نشرت بالفعل خرائط تظهر عليها حدود تلك الكيانات. وكان من الطبيعي أن تحذر جهات عديدة مناهضة للسياسة الأميركية من هذا المشروع وأن تصفه بأنه سايكس ـ بيكو جديد أسوأ من القديم لأنه يقوم على تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم. علاوة على كونه سيخضع شعوب المنطقة لأوضاع أكثر صعوبة مما كانت عليه خلال الفترة الاستقلالية التي ولدت من رحم اتفاقيات سايكس ـ بيكو والتطورات اللاحقة.
أكذوبة الازدهار والاستقرار في ظل الكيانات الطائفية والعرقيةوحتى الأنظمة غير المناهضة للسياسات الأميركية تبدي تخوفاً واضحاً إزاء هذا المشروع لأنه يشكل تهديداً لوحدة "ترابها الوطني". لكنها لا تبدو قادرة على مواجهته، أو جدية في مواجهته، بفعل تبعيتها الاستراتيجية للسياسات الأميركية التي تعمل على دفع الأوضاع نحو الحلول الكونفدرالية.
الحرب الأهلية في جنوب السودان وفي ليبيا "الثورة" تعطي صورة عن الأوضاع الكارثية التي تقود إليها التوجهات الانفصالية
وعلى كل حال، فقد بدأ "التبشير" بتلك الحلول يحتل حيزاً من الاهتمام الإعلامي عبر امتداح مشروع التقسيم الجديد على أساس أنه يسمح بإقامة دول مستقلة أو ذات حكم ذاتي يمكن فيها للمنتمين إلى طائفة أو اتنية أو منطقة جغرافية معينة أن يحكموا أنفسهم وينسجموا ويتعايشوا بشكل أفضل داخل كيانات خاصة بهم.
وبالطبع، لم تنتظر الدوائر الصهيو-أميركية نضوج ثمار هذا التبشير للبدء بتنفيذ المشروع. فعلى أرضية الفساد والاستئثار والعبثية والارتباك وغيرها من العوامل التي تفعل فعلها في زعزعة معظم الأنظمة العربية، ظهرت منذ فترة طويلة دعوات انفصالية في أكثر من بلد عربي. وبالطبع، استغلت الدوائر الصهيو-أميركية هذه الدعوات وتمكنت من تأطيرها ووضعها في خدمة مشروع التقسيم الجديد. وقد حققت تقدماً ملحوظاً في السودان مع انفصال الجنوب وسجلت خطوات هامة في هذا السبيل على مستوى إقليم كردستان العراق، في وقت تتعزز فيه النزعات الانفصالية في ليبيا وتتجاوب أصداؤها في معظم البلدان العربية. وحتى في فلسطين، تبخر "حل الدولتين"، الإسرائيلية والفلسطينية، ليفسح المجال أمام التبشير بـ "حل دولتين" فلسطينيتين إحداهما في غزة والأخرى في الضفة الغربية.
استدراج الشارع العربيإن أهم مكمن للخطر في ظل هذه الأوضاع يكمن، بعيداً عن المؤامرات والصفقات الرسمية، في إمكانية استدراج الشارع العربي نحو القبول بالحلول الكونفدرالية. ومن دواعي القلق في هذا المجال أن هذا الشارع الذي يتوق فعلاً إلى الحرية والكرامة قد أبدى ما يكفي من عدم القدرة على منع اختطاف قضيته من قبل خفافيش الثورة المضادة التي تحكت بمسار الربيع العربي وحولته إلى كارثة خرج مشروع الهيمنة من أحشائها على صورة موجات التكفير والإرهاب.
الحلول الكونفدرالية والكيانات الطائفية والاتنية حصان طروادة جديد يراهن عليه المشروع الصهيو-أميركي
لقد استقل جنوب السودان. لكنه دخل، بدلاً من فردوسه المفقود، في حرب أهلية بين "رفاق الدرب" الذين تخيلوا أنهم صناع ذلك الاستقلال، بينما لم يكونوا في الواقع، عن وعي أو غير وعي، غير أدوات في يد مشروع الهيمنة. ودخلت ليبيا في حرب أهلية لن تتوقف حتى ولو تحولت ليبيا إلى كونفدرالية من ثلاث دول. وعلى هذا القياس قس من كردستان العراق إلى أمازيغ بلاد المغرب مروراً بأقباط مصر وغيرهم من "الأقليات" التي تظن قواها الفاعلة أنها تصنع أوطاناً مستقلة ومفتوحة على الازدهار، بينما لا تفعل في الواقع، عن وعي أو غير وعي، غير تقديم أعناقها من السكين الجاهز لنحرها... على طريق كونفدراليات سيحولها مشروع الهيمنة الصهيو-أميركي إلى كونفدراليات أصغر ثم أصغر حتى التفتيت والتذويب الكامل.
35/5/140918
https://telegram.me/buratha