علي هويدي
في سابقة هي الأولى من نوعها منذ إنتهاء الإنتداب البريطاني على فلسطين متزامناً مع قيام دولة الإحتلال الإسرائيلي في 15/5/1948، عقد البرلمان البريطاني يوم الإثنين 13/10/2014 جلسة خاصة للتصويت على الإعتراف بدولة فلسطين، والبرلمان البريطاني وهو الأقدم في العالم، يتشكل من مجلسي العموم واللوردات، وقد صوت بنعم 273 مقابل 12 صوت بلا، وقد استبقت الحكومة النقاش بالقول "إن التصويت لن يغير موقف بريطانيا الدبلوماسي التي لا تعتبر فلسطين دولة لكنها تقول إنها قد تقدم على هذه الخطوة في حال ارتأت أن ذلك سيساعد عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل"، وعلى الرغم من أن التصويت رمزياً معنوياً غير ملزم لأية إجراءات تنفيذية للحكومة، إلا أن للحدث قراءة ودلالة سياسية غاية في الأهمية وخصوصية استثنائية نتيجة العلاقة التاريخية التي تربط بريطانيا بفلسطين.
من خلال رسالة وجهها إلى اللورد ليونيل روتشيلد أحد أثرياء ورؤساء الجالية اليهودية في بريطانيا، أطلق وزير خارجية بريطانيا جيمس آرثر بلفور وعده المشؤوم في 2/11/1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ وعد من لا يملك لمن لا يستحق، فليس للوعد أية قيمة قانونية وهو مخالف لأحكام وقواعد القانون الدولي؛ فقد تعامل الوعد مع فلسطين وكأنها صحراء خالية من السكان، ومنحها دون وجه حق لغرباء، وبريطانيا كانت في العام 1917 دولة إحتلال ولم تربطها أية صفة قانونية بفلسطين، وليس من حق بريطانيا التنازل عن الإقليم المحتل، وأصبحت لاحقاً في العام 1918 دولة إنتداب من واجبها تهيئة الدولة المُنتدَبة لحق تقرير المصير، ولا تملك حق تقرير مصير شعبها، وهذا ما لم تقم به تجاه الشعب الفلسطيني.
وعلى قاعدة "ما بُني على باطل فهو باطل"، فقد جاء مؤتمر سان ريمو في العام 1920 ليكرِّس الإنتداب البريطاني على فلسطين، ويعترف بوعد بلفور كجزء من الإنتداب، وكذلك فعلت عصبة الأمم في العام 1922 لتقر بالإنتداب بما فيه الوعد المشؤوم، وكذلك فعلت الأمم المتحدة عندما قامت في العام 1945 حين أقرت بشرعية قرارات عصبة الأمم بما فيها وعد بلفور. الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني منذ ما يقارب القرن من الزمان، تتحمل مسؤوليته بشكل أساسي الحكومات البريطانية المتعاقبة، التي وعلى الرغم من وعد بلفور وما صاحبه من عمليات قتل للفلسطينيين وتسهيل لهجرة اليهود الى فلسطين كمشروع إحلالي ومصادرة أملاك الفلسطينيين وتدمير 531 قرية وطرد 935 الف فلسطيني والتسبب بأكبر حالة لجوء في العالم، وتسليم فلسطين دولة كاملة بكل مكوناتها للعصابات الصهيونية، فلا تزال بريطانيا ودون أي شعور بالذنب أو تأنيب للضمير أو تحمل للمسؤولية، لا تزال تدعم دولة الإحتلال وتعتبرها حليفاً يؤدي مصالح مشتركة في المنطقة.
أن يصوت هذا العدد المهم من أعضاء البرلمان البريطاني للإعتراف بدولة فلسطين، هذا لا يعني عدم الإعتراف بـ "دولة إسرائيل"، لكن هو تعبير سياسي أخلاقي إنساني عن رفض للممارسات الإسرائيلية العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني والتي تتنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة، وهذا جزء من حالة عامة بدأت تجتاح الغرب عموماً، ففي الوقت الذي يرتفع فيه منسوب التأييد للقضية الفلسطينية، نرى في المقابل إنخفاض في منسوب التأييد لدولة الإحتلال، وأهمها حملات مقاطعة "إسرائيل" المنتشرة في الغرب التي تشمل المقاطعة الإقتصادية والاكاديمية والثقافية والمزيد من العزلية الدولية للإحتلال.. هذا على الرغم من التفوق الإسرائيلي في الموارد البشرية المكرسة للدفاع عن الإحتلال في المحافل الدولية.
جاء التصويت نتيجة تراكم سنوات من العمل الجمعي الدؤوب في الغرب عموماً وفي القارة الأوروبية وفي بريطانيا على وجه الخصوص، بإبراز أحقية وعدالة ومظلمة القضية الفلسطينية، ساهم فيها العديد من النخب والمؤسسات الفلسطينية والمتضامنين الأجانب.. فقد بات المواطن الغربي يعي - وإن بشكل نسبي - بأن ما يدفعه ضرائب لحكومة بلده فإنه إن لم يساهم في شراء الأسلحة لتدمير بيوت الفلسطينيين وبناهم التحتية، ولقتل المدنيين الأبرياء من الشعب الفلسطيني، فانه يساهم في المواقف السياسية العدائية التي تمارسها حكومة بلده تجاه الشعب الفلسطيني، ومؤيدة لإحتلال بغيض مستنكر ومرفوض من شعوب العالم.
خلال الخمسين سنة الماضية، برزت ثلاثة مؤشرات مهمة في السياسة البريطانية وعلاقتها مع الشعوب وتخلصها من الفكر الإستعماري للدول، فقد اعتذرت بريطانيا من قبائل الماو ماو في كينيا في إفريقيا في العام 1963 على ما ارتكبته من مجازر، وتم لهم حكماً ذاتياً، وفي العام 2003 قال جاك سترو وزير خارجية بريطانيا الأسبق في مقابلة صحفية "لم ننصف الفلسطينيين في وعد بلفور"، وفي شباط من العام 2013، زار رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الهند واعتبر أن المجزرة التي ارتكبها الجنود البريطانيون بالهنود إبان إستعمار بريطانيا للهند في العام 1919 "وصمة عار في جبين بريطانيا".
ويأتي المؤشر الرابع بتصويت البرلمان على الإعتراف بدولة فلسطين إضاءة تاريخية مهمة سيكون لها ضغط سياسي على الحكومة للمزيد من الإعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وأهمها الإعتذار من الشعب الفلسطيني عن وعد بلفور خاصة ونحن نقترب من الذكرى المئوية في العام 2017. تدرك بريطانيا ما الذي سيترتب على الإعتذار من تبعات سواءً على مستوى رد الإعتبار المعنوي للشعب الفلسطيني وإستعادة الحقوق.. وعودة اللاجئين، أو الرؤية الإستراتيجية للعلاقة العضوية بين بريطانيا ودولة الإحتلال، وأثر هذا الإعتذار على الدول التي ساندت وأيدت ووفرت وسائل الدعم السياسي والإعلامي واللوجستي والزيف القانوني للإحتلال الإسرائيلي، وما سيشكله هذا الاعتذار من محطة فاصلة يُقتدى بها كإنعكاس لأي حالة ظلم في العالم. نحن في مرحلة سياسية دولية فاصلة تتعلق بمصير 11 مليون فلسطيني منتشرين في أماكن اللجوء والشتات، وأمام هذه المعطيات وأمام إستحقاقات تاريخية جديدة تعطي لكل ذي حق حقه، ليس أمام الحكومة البريطانية وعلى الرغم من "التضحيات" التي ستقدمها.. إلا الإعتذار.
* كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني
16/5/141018
https://telegram.me/buratha