عبد الحسين شبيب
عملياً وضع مرض الملك عبد الله بن عبد العزيز السعودية في دائرة العناية السياسية المركزة. الالتهاب الرئوي الذي اصيب به واستدعى تركيب جهاز تنفس اصطناعي مؤشر على الوضع الصحي الذي بلغه والذي يمكن ان يطيل اقامته في مدينة الملك عبد العزيز الطبية التابعة للحرس للوطني. فالرجل يبلغ من العمر واحدا وتسعين عاماً وخضع لعدة عمليات جراحية معقدة تكللت بالنجاح لكنها افقدته القدرة على الحركة. لذا فان هذه الشفافية في احاطة الرأي العام بوضع الملك كما جاء في البيان الرسمي لديوان عبد العزيز التويجري، وهي خطوة تمهيدية مدروسة، اضافة الى عدم مغادرة الملك للعلاج في الخارج وبقائه في الرياض، ثم قراءة خطابه السنوي امام مجلس الشورى، تعتبر اشارات على ان هذا العارض الاخير سيصعب عليه الاستمرارية في القيام بمهامه بالشكل السابق، وبالتالي فانه عاجلا ام آجلاً ستدخل السعودية في منطقة القلق الكبير ومرحلة اللاستقرار التي عرفتها فترة حكم الملك عبد الله منذ توليه رسميا العرش عام 2005، وفعليا قبل ذلك بسنوات اثناء تدهور صحة شقيقه الملك فهد.
منشأ هذه التوقعات هو ان تجربة الحكم القوي ولو من منصب ولي العهد كما فعل الملك عبد الله لن تتكرر فيما يتعلق بالشخصين المعينين رسميا لخلافته: ولي العهد الحالي الامير سلمان بن عبد العزيز بسبب معاناته من مرض الزهايمر باجماع اكثر من مصدر غربي مهتم بشؤون العائلة المالكة، تضاف اليهم المصادر الاسرائيلية التي صارت في الفترة الماضية اكثر اهتماما بشؤون الاسرة الحاكمة بعيد تقاطع المصالح الاسرائيلية _ السعودية في اكثر من ساحة اقليمية، تحديدا ايران وسوريا. وهذا القلق ترجمته مقالة لموقع "المصدر" الاسرائيلي في الخامس من كانون الثاني الجاري حملت عنوان: ازمة الخلافة في السعودية: الزهايمر وقضايا حسب ونسب؟ وتتوقع صعوبات "صحية" في ممارسة "الملك سلمان" لسلطاته في حال تم الحفاظ على التسلسل الحالي المعد لانتقال السلطة بعد عبد الله.
المملكة تحولت من ساحة نصرة "لاخواننا في سوريا والعراق" - بغض نظر وبدعم في البداية من مكونات النظام السعودي السياسية والمجتمعية والدينية - الى ساحة جهادايضا التوقع نفسه بالنسبة لولي ولي العهد الامير مقرن، ليس لان الاخير لا يزال يعتبر في عرف العائلة المالكة شاباً رغم ان عمره 69 عاماً، ومقرب من الملك الحالي بشدة ولديه خبرة عسكرية وديبلوماسية تؤهله للقيام بمهام الملك بشكل فعال، بل لعدة اسباب جوهرية اسست عملياً لنزاع كامن سيظهر بقوة لاحقاً، وهي أن تعيينه ولياً لولي العهد كان سابقة "ملكية" سواء في ابتداع هذا المنصب، او في تجاوز صلاحيات اي ملك وحقه في اختيار ولي العهد بنفسه، وأيضاً في تجاوز هيئة البيعة التي لم يحظ فيها هذا التعيين بالاغلبية، فضلا عن التشكيك في طرح قرار التعيين عليها اصلاً. لكن الاخطر ان قطع الملك عبد الله الطريق الى العرش على من تبقى من اخوته الاكبر سنا من مقرن (هو اصغر ابناء الملك عبد العزيز) اثار حنقهم وحنق ابنائهم ايضاً، مع ما سيرتبه ذلك من تداعيات مستقبلية. وفوق كل ذلك هناك اعتبار اخر لا يلعب لصالح "الملك المحتمل" هو ما يسمونه في السلالة الحاكمة تدني نسبه بسبب ولادته من جارية يمنية لم يتزوجها والده رسمياً. صحيح هناك تقسيم تقليدي بين اولاد عبد العزيز الموزعين على فريق سديري وفريق غير سديري، مع حظوة للاول، لكن مقرن يقع في اسفل مرتبة الفريق غير السديري الذي يضم ايضا الملك الحالي. ومع ذلك ليس هناك تقدير دقيق في حجم تاثير هذا المعطى النَسَبي ودوره في تأجيج النزاعات داخل بيت عبد العزيز الذي خلف 45 ابنا من اكثر من22 زوجة، ولكل واحد من هؤلاء عشرات الابناء ممن يحملون صفة امير، وكثير منهم يتبوؤون مناصب حساسة في جميع القطاعات الحيوية في المملكة، (على سبيل المثال
ثاني ملوك السعودية سعود بن عبدالعزيز آل سعود لديه 53 ابنا لديهم آلاف الأبناء، الكثير منهم في مناصب حكومية رفيعة)، ما يفتح الباب امام اصطفافات ستؤدي حكما الى اقصاء فريق وتهميشه لصالح فريق ستنتقل اليه السلطة، وبالتالي سيصبح التقسيم السديري وغير السديري من الماضي امام التحالفات الجديدة التي ستنشأ والتي ستعتمد بالدرجة الاولى على مراكز قوة خارجية اكثر منها داخلية.
استدعاء خارجيوفي هذا السياق تبرز عدة مؤشرات في السباق الى العرش او محاولة تحصين الخيارات التي تتجاذب مراكز النفوذ في المملكة. ففي غضون اشهر قليلة، تؤرخ منذ انطلاق عمليات التحالف الدولي ضد داعش، سجلت ثلاث زيارات متتالية لابرز ثلاثة طامحين _ مرشحين للملك اخرهم
رئيس الاستخبارات الأمير خالد بن بندر بن عبد العزيز إلى العاصمة الأميركية واشنطن الاثنين الماضي في زيارة لعدة أيام (غير محددة) لإجراء مشاورات بشأن العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية كما جاء في سياق الخبر المنشور عنها. وهو طبعا عنوان تقليدي تذيل به اغلب الزيارات في العالم لابعاد النظر عن الاهداف الحقيقية. وقبل خالد زار واشنطن نجل الملك وابرز المرشحين وزير الحرس الوطني الأمير متعب بن عبد الله في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وقبله ايضا وزير الداخلية محمد بن نايف.
وهؤلاء هم اقوى ثلاثة امراء يتحكمون بامور المملكة من خلال امساكهم بالمؤسسات العسكرية والامنية: متعب الحرس الوطني (الجيش الفعلي)، محمد بن نايف الاجهزة الامنية الداخلية، خالد الاستخبارات، يضاف اليهم وزير الخارجية سعود الفيصل الذي ينسب اليه كل الاخفاق في السياسة الخارجية، لكنه بسبب كبر سنه باتت حظوظه معدومة، اضافة الى بندر بن سلطان الذي تم احراقه في سوريا وتحميله تبعات جميع الملفات القذرة.
وهذه الزيارات المتتالية تدرج فعليا في سياق عملية ترتيب البيت الداخلي للعائلة الحاكمة بسبب امساك كل فرع بعناصر قوة يمكن ان يجيرها لصالحه في السباق نحو قصر القرار، او في المشاغبة على اي خيار لا يضمن توزيعاً مقبولاً للسلطة بعد الملك عبد الله.
ومع ان التحليل السائد يعتبر ان الملك الحالي فتح الطريق امام ابنه متعب عبر ولي ولي العهد مقرن، لكن هناك تقديرات عدة تفيد بان الامور قد لا تسير كما هو مرسوم لها بسبب تحديات كبيرة وغير مسبوقة تواجهها المملكة وسيكون لها دور اولاً في تحديد صورة المملكة بحد ذاتها قبل ان تحدد اسماء الملك واولياء العهد القادمين.
وربما للمرة الاولى تجاهر القيادة السعودية في ابداء قلقها من "التحديات غير المسبوقة" التي خاطب بها الملك عبد الله عبر ولي العهد الامير سلمان مجلس الشورى السعودي في افتتاح سنته الجديدة، وتحدث فيها عن ثلاثة مخاطر رئيسة سيكون لها تاثيرات جوهرية على مسار السعودية وهي الارهاب، المخاطر الاقليمية في دول الجوار، والنفط.
داعش تضرب رسمياًويبدو ان ما عانته المملكة من تنظيم القاعدة بين العامين 2003 و2006 بعيد عودة الجهاديين من افغانستان ومن الشيشان ومن البوسنة سيكون نزهة امام ما هو متوقع من الاسم الجديد للموجة العنفية المرتقبة باسم "داعش"، مع فارق استراتيجي ان الاول، اي القاعدة، كان يريد اخراج الصليبيين من المملكة وتطهير ارض الحجار والجزيرة العربية منهم فقط، اما الثاني الذي يطلق على نفسه "الدولة الاسلامية" فانه يريد فوق ذلك السلطة وتوحيدها باسم الخلافة، اي الغاء الثنائية السياسية الدينية التي حكمت المملكة منذ تاسيسها، فأبو بكر البغدادي يريد ان يحتكر السلطة والدين معاً لا ان يبقيا موزعين بين تحالفين عائلي وديني.
ولأن الامر يتجاوز مجرد التنظير او التحليل الورقي فان داعش وبفارق زمني قصير جداً وجهت ثلاث ضربات على العناوين الثلاثة التي طلب البغدادي من اتباعه ضربها في المملكة: ال سعود، الاجانب الصليبيين، والرافضة، على ان يكون البدء من الشيعة. وهذا ما حصل بالفعل من خلال جريمة الاعتداء على مجلس عزاء حسيني للشيعة في قرية الدالوة في منطقة الاحساء شرقي المملكة، ثم اطلاق النار على دانماركي، واخيرا في مركز سويف على الحدود العراقية السعودية والتي اودت بحياة قائد حرس الحدود الشمالية العميد عودة البلوي مع ضباط آخرين في هجوم متعدد الاساليب جمع بين الانغماسية والهجوم بالاسلحة الرشاشة وتبناه التنظيم رسمياً خلافا للهجومين السابقين، وقال في بيانه انه "تم مهاجمة الثكنات الحدودية للجيش السعودي، ما أسفر عن مقتل العميد البلوي، وقائد العمليات سالم العنزي، وعدد من الجنود".
وهذه الاعتداءات الثلاثة في شهرين فقط (محرم الحرام ربيع الاول) تظهر ان المملكة تحولت من ساحة نصرة "لاخواننا في سوريا والعراق" بغض نظر وبدعم في البداية من مكونات النظام السعودي السياسية والمجتمعية والدينية _ الى ساحة جهاد تشارك فيها الخلايا النائمة _ المستيقظة داخل المملكة، وينضم اليها جهاديون خارجيون كمشاركة داعشي قطري في جريمة الاحساء. وهذا طبعا جرس انذار كبير يقرع اليوم داخل اروقة العائلة الحاكمة وكيف ستتعامل مع هذا التحدي الامني الخطير جداً، وهل سيكون سببا في مزيد من تشظيتها ام التقائها لمواجهة العدو الجديد.
الاحتياطي في خطرويقدم التحدي الاقتصادي نموذجاً آخر عن توزع الابناء والاحفاد في اصطفافات متناحرة بسبب ما يمكن ان تواجهه المملكة من صعوبات مالية واقتصادية. وكمثال على ذلك توجيه الأمير الوليد بن طلال انتقادات حادة بشأن السياسة المالية إثر الإعلان عن عجز في الموازنة بسبب انخفاض أسعار النفط معتبرا ان "البلاد وصلت الى نقطة الخطر وهي السحب من الاحتياطي لمواجهة العجز" وبرايه "كان على الحكومة الانتباه إلى ضرورة عدم تجاوز النفقات المحددة في الموازنة"، وانه لو كانت التزمت المملكة بالنفقات الواردة في موازنة العام الماضي، لكانت حققت فائضا ماليا بحجم 50 مليار دولار على الأقل.
هل رسالة الوليد بن طلال حول السحب من الاحتياطي هي لوزير مغلوب على امره ام الى جناح معينداخل العائلة الحاكمة؟
لكن هل وزير المالية الذي تلقى رسالة من الوليد بن طلال بهذا الشأن هو المسؤول عن هذا التراجع والعجز، ام مركز القرار الحقيقي الذي ينفق على حروب متنقلة في سوريا وليبيا والعراق واليمن وفقا لعشرات التقارير الغربية الرسمية والاستخبارية؟ وهل رسالة الوليد بن طلال هي لوزير مغلوب على امره ام الى جناح معين داخل العائلة الحاكمة، مع الاشارة الى ان خفض اسعار النفط هو قرار سيادي سعودي اتخذ على مستويات عليا وليس للمستويات الدنيا اي علاقة به وهو يندرج في سياق مواجهة مفتوحة على اكثر من جبهة خارجية يمكن ان تاخذ المملكة الى سحب المزيد من الاحتياطي البالغ 750 مليار دولار واستنزافه في وقت قصير نسبياً، اذا استمر التدحرج على الموال نفسه حيث سحب خلال عامين ما قيمته 53 مليار دولار من هذا الصندوق كما كشف الوليد بن طلال. اما العجز في الموازنة الجديدة التي أقرها مجلس الوزراء السعودي فيقدر بـ 36 مليارا و600 مليون دولار، ويعتبر الأكبر في المملكة منذ عام 2011، ويعني هذا ان هذا المبلغ سيسحب من الاحتياط ايضاً لسد العجز. وبالتالي فان حديث الملك _ ولي العهد امام مجلس الشورى عن الازمة النفطية هو اشارة الى ان المملكة تتجه نحو ازمة اقتصادية اضافة الى ازمة الخلافة انفة الذكر فضلا عن التحدي الامني، ما يشير الى ان عدم الاستقرار المتوقع في السعودية بعيد الملك عبد الله لا يتعلق فقط بازمة الحكم انما يتعلق بالاستقرارين الاقتصادي والامني وهما مكونان اساسيان في "العقد الاجتماعي" يتهيآن لفرطه مع الظاهرة الوهابية _ التكفيرية التي تقوم "بنصيبها" في عملية الفرط هذه.
29/5/150111
https://telegram.me/buratha