عدنان الصالحي
تقارب الدولة المارقة مع الشيطان الأكبر (كما كان كلاهما يوصف الآخر) لم يفاجئ العالم فقط بل ادخل الكثير من دول العالم والمنطقة بالخصوص في دوامة القلق من المستقبل، رغم معرفة الكثير منهم بذلك مسبقا، وماذا يعني جلوس الأعداء التاريخيين على طاولة واحدة، فالأغلب يرى إن الملف النووي ليس إلا بداية التقارب ومن ثم التفاهم حول ملفات كثيرة ومتعددة.
الاتفاق الذي توصلت اليه إيران والدول الست الكبرى (أو ما يسمى بمجموعة 5+1 وهي الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى ألمانيا) بشأن الملف النووي وذلك بعد مفاوضات في مدينة لوزان السويسرية خلال الأسبوع الماضي، والذي يقضي بتخفيض طهران من قدراتها النووية مقابل رفع للعقوبات الدولية المفروضة عليها، يعد نقطة تحول عالمية لرسم خارطة العالم الجديدة بشكل أشبه بما نفذ بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية فالاتفاق وان كان طارئ وان الموعد النهائي هو 30يونيو القادم كموعد للخروج بالاتفاق النهائي، إلا إن المحتفلين والمتفائلين به من جميع الأطراف المتفاوضة أظهرت وكأنها نهاية لمرحلة حرجة من التفاوض المرير بين الطرفين.
فبعد عمر ناهز الـ 36 عاما من توقف شرطي الخليج عن مهامه، يبدو إن عودته أصبحت وشيكة لا كقوة عظمى إقليمية فحسب بل وقد يكون عالميا في المستقبل، فاغلب المحللين يؤكدون ان الاتفاق السلمي مع إيران بشأن طموحاتها النووية سيكون له تأثير سياسي هائل على المنطقة، هذه العودة لم تكن بقوة قاهرة او بحرب دموية بل كانت بتنسيق وترتيب مع شرطي العالم الأول (الولايات المتحدة الأمريكية).
من جانبها فان إيران التي شن ضدها نظام صدام الرئيس العراقي الراحل حربا لمدة ثمان أعوام في ثمانينات العقد الماضي ومن ثم عقوبات اقتصادية وسياسية من قبل الغرب بتهم دعمها للإرهاب وتهديد سلم المنطقة للخطر، ظهرت بعد هذه الأحداث بثوب جديد وبعصا غليظة تمثلت في نفوذها السياسي والعسكري المتشعب والذي وصل الى مناطق مختلفة، مما أرعب دول المنطقة والمتصورة بعودة (شرطيين للخليج) أحدهم عالمي والأخر إقليمي.
في مدينة لوزان السويسرية حيث تم الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني، في بداية نيسان ابريل الجاري في نفس المدينة وفي نهاية القرن الماضي تم إغلاق ملف الإمبراطورية العثمانية، وهذه الرمزية قد تسبب قلقا كبيرا للكثير ممن يرون في الاتفاق رحيلا لعصرهم الذهبي وللأيام الهادئة التي كانوا يعيشونها.
المنطقة الشرق أوسطية المتفجرة على ما يبدو سيكون لها الحصة الأكبر من صفقة الاتفاق ففي الوقت الذي بدت الحكومتين السورية والعراقية اللتان تمران بوضع امني متردي ترسم لمستقبل أكثر تفاؤلا بوجود تقارب أمريكي- إيراني، كان لهذا التقارب جوا محبطا ومقلقا لمنطقة الخليج وتركيا وان كان غير معلن إلا إن مؤشراته بدت واضحة بعدم الترحيب او الترحيب المتصنع على اقل تقدير، فالتفاوض وان تركز على برنامج إيران النووي غير انه وبلا أدنى شك سيكون مفتاح لتفاهمات ابعد وأوسع ومنها رسم خارطة المنطقة السياسية ومستقبل بعض الأنظمة المتشددة منها خصوصا.
الطرفان يزدادان تقاربا في كل خطوة من المباحثات ففي الوقت الذي حصلت فيه الولايات المتحدة على ما تريد من ذلك الاتفاق بتجنب المواجهة مع إيران والتوصل لاتفاق يقضي بكبح جماح الجمهورية الإسلامية في إتمام برنامجها النووي، لكن هذا الاتفاق لا يعد “استسلاماً مهيناً” لإيران، إذ سمح لها بالإبقاء على جزء صغير من برنامجها النووي، كما حظت ببعض الانتصارات الخاصة بها، كمواصلة استخدام منشئاتها النووية، وهي وإن كانت لفتة رمزية، إلا أن لها أهمية معنوية بالنسبة لإيران.
محور الشر والشيطان الأكبر تنسيق من نوع خاص
تلاقي المصالح والرضوخ إلى مبدأ الواقع سائدان في هذا التفاوض والتقارب خصوصًا وأنّ البلدين يسيران للمرّة الأولى على الخطّ نفسه؛ إذ انّ (الاعتدال) المحبذ عند روحاني يسير في نفس الاتجاه مع الإرادة الأمريكية في العثور على شركاء إقليميين جدد (عقلاء) قادرين على الحفاظ على الاستقرار النسبي ومراعاة مصالح الشركاء، باعتبار أنّ الحلفاء التقليديين في ممالك النفط وحكم العسكر القديم غير قادرين على السيطرة على أنصارهم الّذين انحرفوا نحو الجهادية الإرهابية وتبعثر اغلبهم حول مصالحهم الشخصية وفسادهم المتصاعد.
لذا فان إيجاد حليف واضح القيادة وذو قوة وفعالية سياسية وعسكرية أصبح ركيزة أساسية للسياسة الأمريكية في جميع مناطق العالم وعلى ما يبدو فان الشعار الذي رفع سابقا في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة برئاسة السيد العبادي كان أول ممارسة عملية لهذا التوافق والمعبر عنه (بشراكة الأقوياء)، وهو تمهيد لنظرية جديدة لقيادة العالم بشكل تدريجي.
دول المنطقة المرتبكة
البعض يرى بان هذا التقارب لن يغيرا كثيرا من خارطة الشرق الأوسط مستشهدا ببعض الأمثلة التاريخية في ذلك، ففي ذروة التقارب السوفيتي-الأمريكي لكن الصراع في القرن الأفريقي وفي انغولا لم يتوقف في سبعينات هذا القرن، كذلك فان التباعد الصيني-الأمريكي حول تايوان لم يؤثر على التعاون المالي والاقتصادي بينهما، ولذا فان البعض يعد ما جرى لا يتجاوز كونه زوبعة في فنجان وطريقة قديمة – جديدة لاحتواء (محور الشر) ومن ثم، الرجوع الى مشاكسته وإيجاد مشاكل جديدة معه.
إلا إن المؤشرات والتحليلات للكثير من مراقبي الأحداث يستشرف مستقبلا غير ذلك فالصعود المدوي لإيران في هذه المرحلة يؤكد المخاوف لدى دول الخليج متهمين الإيرانيين بمحاولة الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط فهذه الدول تشعر بالخذلان من قبل واشنطن، وتخشى من تعاظم دور إيران في المنطقة بعد توصلها إلى اتفاق حول ملفها النووي مع القوى الكبرى، ويتساءل الكثيرون إنه إذا كانت إيران قادرة على إلحاق كل هذا الضرر الإقليمي في ظل العقوبات الدولية ومع انخفاض أسعار النفط إلى حوالي 50 دولارًا للبرميل، فما الذي ستفعله طهران إذا تم رفع العقوبات عنها سواء السياسية أو الاقتصادية، وأصبح لدى حرسها الثوري المزيد من المليارات ؟
من جانبه يرى المحلل السياسي السعودي جمال خاشقجي أن إيران خسرت جزء من ملفها النووي ولكنها كسبت السيطرة والهيمنة حيث يقول في مقال له (...اعتقد إن دول الخليج من ناحية المبدأ تريد علاقات جيدة مع إيران إلا إنها تخشى أن تفسر إيران الاتفاق على انه يترك لها اليد الطولى في المنطقة.... إيران تخلت عن المشروع النووي وكسبت الهيمنة)، من جانبها فان الرفض الإسرائيلي كان واضحا في تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو والذي اعتبر إن الاتفاق بين الدول الكبرى وايران "خطأ تاريخي" مؤكدا على احتفاظ بلاده بحق "الدفاع عن النفس، اما تركيا فقد اختارت ان تكون أول دولة جالسة بالقرب من الجمهورية الإسلامية بعد توقيع الاتفاق في مشهد غريب تمثل بزيارة الرئيس التركي رجب طيب الى طهران في زيارة خاطفة.
الموقف المطلوب
الاتفاق وعلى ما يبدو سائر باتجاه التنفيذ وعقارب الساعة لن تعود للوراء، وفي السياسة يمكن العمل بقاعدة (لا تتفائل الى حد النشوة ولا تتشائم الى درجة الانهيار)، وعلى هذا الأساس فان من المنطق والعقل أن تحسب دول المنطقة حسابها بان للأمريكان أصبح شريكا جديدا ومهما وهو ايران وان لم تكن تعلن ذلك، الا ان الواقع له فرضياته ومعطياته وعليه، لابد من ترك الأمنيات جانبا والعمل على ما هو واقع، فالحديث عن ضربة العسكرية ضد إيران أصبحت في ماضي الزمن والعقوبات ستتبعها كذلك، ومن هنا فلابد ان تعيد جميع دول المنطقة حساباتها وتضع نصب عينيها بان للمنطقة شرطيان احدهما عالمي والآخر إقليمي وكلا هما متفق على اغلب النقاط ولن يجدا صعوبة في التفاوض في أي نقطة خلافية أخرى، أما (عاصفة لوزان) فهي بداية العمل الميداني المعلن، وهذه العاصفة على ما يبدو ستبدد نهاية أحلام الكثيرين ممن استبعدوا الاتفاق وراهنوا على الحل العسكري.
* مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية
http://mcsr.net
28/5/150305
https://telegram.me/buratha