انتهى لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ في بروكسل، وبطلب من الأخير، انتهى بتصريحات حادة من جانب ستولتنبرغ بحق روسيا.
وأشاع هذا التصرف انطباعا في العديد من الأوساط الدبلوماسية والسياسية بفشل هذا اللقاء في تضييق هوة الخلافات بين روسيا والناتو حول الأزمة الأوكرانية.
في الوقت الذي نفى فيه وزير الخارجية الروسي لافروف اتهامات أوكرانيا والغرب بتدخل روسيا في الشؤون الداخلية الأوكرانية، مؤكدا أن بلاده ليست طرفا في النزاع الداخلي الأوكراني، وأن موسكو لا تتهرب أبدا من الاتصالات مع الحلف، مشيرا إلى أن تجميد العلاقات بين روسيا والناتو جاء بمبادرة من الحلف، وأكد الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ على أنه دعا موسكو إلى وقف دعم مسلحي دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا وضرورة تنفيذ اتفاقات مينسك بشكل كامل، بما في ذلك الالتزام بوقف إطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة والسماح بعمل المراقبين الدوليين في منطقة النزاع بهدف متابعة تنفيذ اتفاق الهدنة. كما أكد الأمين العام للناتو من جديد موقف الحلف الرافض لما اعتبره ضم القرم بشكل غير شرعي إلى روسيا الاتحادية.
لم تتوقف الأمور عند ذلك، بل ظهرت اتهامات جديدة مغلفة بتحذيرات من روسيا. إذ قال لافروف إن الحكومة الأوكرانية تتهرب من الحوار المباشر من خلال طرح أفكار وصيغ جديدة لم تناقش ولم تقر في اتفاقات مينسك. وأكد أن الأزمة الأوكرانية كشفت عن وجود مشاكل جوهرية في منظومة الأمن الأوروبي، وأنها نشأت بسبب عدم تنفيذ الالتزامات بإزالة خطوط الفصل القديمة ومنع ظهور خطوط فصل جديدة. وحذر مجددا من أن محاولات كييف وعدد من العواصم الأخرى مواصلة تصعيد الأزمة في أوكرانيا قد تأتي بعواقب وخيمة لأوكرانيا نفسها وكذلك لنظام الأمن الأوروبي بأكمله. ودعا إلى توسيع تفويض مجلس أوروبا بشأن التحقيق في الجرائم التي ارتكبت في ميدان الاستقلال في كييف وفي أوديسا العام الماضي.
من المعروف أن روسيا تحاول استمالة أوروبا في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بالضغط عليها لمواجهة موسكو. وعلى الرغم من أن الجمعية البرلمانية الأوروبية حرمت روسيا من حق التصويت وقلصت من صلاحياتها كعضو فيه، إلا أن الوزير الروسي أكد على أهمية لجنة وزراء مجلس أوروبا لأنها المنظمة الأوروبية الوحيدة التي تقوم على أسس قانونية دولية واضحة وليس على بيانات سياسية. كما أكد أيضا، بعد مباحثاته مع الأمين العام لمجلس أوروبا ثوربيورن ياغلاند والمفوضة الأوروبية العليا للسياسة الخارجية والأمن فيديريكا موغيريني، أن موسكو تلاحظ تحقيق "تقدم معين" في إقامة الحوار مع الاتحاد الأوروبي.
لقد ركز لافروف على وعود موغيريني له بأن تعاون الاتحاد الأوروبي مع الدول الأعضاء في برنامج "الشراكة الشرقية" لن يتطور على حساب مصالح روسيا، مشيرا إلى ضرورة أن يهدف التعاون بين الاتحاد الأوروبي و"الشراكة الشرقية" إلى تحقيق انسجام مع عمليات التكامل في شرق أوروبا دون أية مواجهة، معربا عن أمله بأن تتحول تصريحات موغيريني إلى خطوات معينة.
يذكر أن الشراكة الشرقية هي مشروع بدأ العمل به في الاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٨. ويهدف لاستكمال البعد الشرقي ولاتحاد من أجل المتوسط من خلال توفير منتدى لمناقشة مؤسسية لاتفاقيات التأشيرة واتفاقيات التجارة الحرة واتفاقات الشراكة الاستراتيجية مع جيران الاتحاد الأوروبي الشرقيين مع تجنب موضوع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي المثير للجدل. ويتألف نطاق الشراكة الجغرافي من (أرمينيا وأذربيجان وجورجيا ومولدافيا وأوكرانيا وبيلاروس). أبدت بعض الدول الأوروبية الكبرى تخوفها بسبب احتمال أن يكون هذا المشروع بمثابة نقطة انطلاق لضم الجمهوريات السوفيتية إلى الاتحاد الأوروبي، وخاصة أوكرانيا.
لقد دفعت الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة بحملة إعلامية، رافقت مباحثات كيري مع لافروف في سوتسي ومباحثات نولاند مع نائبي وزير الخارجية الروسي في موسكو، تعطي انطباعا بأن واشنطن صارت أكثر مرونة في الملفات الخلافية مع موسكو. ولكن المثير للتساؤلات أن يظهر الجنرال بن هودجس قائد القوات الأمريكية في أوروبا، للتعهد، أثناء زيارته كييف يوم 19 مايو/ أيار الحالي، بنقل الخبرات العسكرية الأمريكية لعناصر الحرس الوطني الأوكراني. فخلال لقائه الجنرال نيقولاي بالان قائد الحرس الوطني الأوكراني قال له متعهدا: "إننا سنساعدكم في الدفاع عن حقكم في حماية دولتكم. وسنعمل كل ما بوسعنا من أجل نقل الخبرات العملية للعسكريين الأمريكيين إلى عناصر الحرس الوطني الأوكراني". وهو بالفعل ما يجري حاليا، حيث يشرف مدربون أمريكيون على عمليات التدريب في ميدان يافوروف العسكري بغرب أوكرانيا.
الأمر لا يقتصر على ذلك، بل تتأزم الأمور أيضا على خط العلاقات بين روسيا وحلف الناتو، حيث أعلن نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال جيمس وينفيلد، في نفس يوم الثلاثاء 19 مايو/أيار الحالي، أن خطط نشر نظام الدرع الصاروخي الأمريكية في أوروبا لا تسهدف روسيا، لأن منظومات الأسلحة الروسية يمكنها التغلب عليها.
قد يبدو هذا التصريح مرضيا للبعض. ولكنه يحمل في طياته، إما سخرية مثيرة للتساؤولات، أو عدم دراية بما يجري على أرض الواقع من مخاطر تهدد الأمن الدولي عموما، وأمن القارة الأوروبية على وجه الخصوص. والمثير للدهشة أن الأدميرال جيمس وينفيلد برر نشر الدرع الصاروخية في أوروبا بأنها لمواجهة التهديد الإيراني أو تهديدات أخرى في المنطقة، مشيرا إلى أن "سياسة الولايات المتحدة ليست بناء الدرع الصاروخية لمواجهة الصواريخ الباليستية الروسية في أوروبا. وإنما تنشرها في بولندا ورومانيا بهدف مواجهة الصواريخ الباليستية بعيدة المدى التي يمكن إطلاقها من دول أخرى، خارج المنطقة الأوروأطلسية في اتجاه شركائنا في حلف الناتو في أوروبا".
وعلى الرغم من ارتياح واشنطن والعديد من الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو عن سير المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني، إلا أن "الوحش الإيراني المخيف" لا يزال يستخدم ذريعة لعسكرة أوروبا. فقد أشار وينفيلد إلي أن روسيا بدلا من أن تشعر بالقلق بسبب الدرع الصاروخية في أوروبا، فمن الأفضل لها أن تقنع إيران بالحد من برنامجها الصاروخي. بل وذهب إلى تصريح أكثر إثارة للدهشة، عندما قال: إن "أفضل ما يمكن أن تفعله روسيا والصين في هذا المجال هو إقناع كوريا الشمالية وإيران بالتخلي عن برامجها لتطوير الصواريخ الباليستية، ونحن للأسف لا نرى ذلك إلى الآن". وأكد على أن الولايات المتحدة وشركاءها الأوروبيين سيواصلون نشر الدرع الصاروخية في أوروبا، وسيتم نشر صواريخ الاعتراض "إيجيس" في رومانيا بنهاية العام 2015 الجاري.
إن المسؤول العسكري الأمريكي – الأطلسي يعترف بقدرة الصواريخ الباليستية الروسية على مواجهة الدرع الصاروخية، ولكنه من جهة أخرى يشرع في إخافة العالم من جديد باختراع "وحش إيراني – كوري شمالي" يهدد أوروبا والدول الحليفة للولايات المتحدة، وأن روسيا والصين تقفان وراء هذا "الوحش الجديد". ما يعطي انطباعا بأن حلف الناتو دخل فعليا حربا باردة جديدة بنفس المصطلحات القديمة والحملات الإعلامية الساذجة والاستفزازية في آن واحد.
https://telegram.me/buratha