اغلب الظن ان المؤتمر لن يحقق الاهداف الحقيقية التي يتطلع اليمنيون اليها لاسيما مع تصاعد كلغة العنجهية التي تستخدمها الرياض، وهو ما ظهر ايضا على لسان الرئيس المخلوع عبد ربه منصور هادي في حديثه يوم 8 حزيران 2015 مع قناة " العربية" التابعة للنظام السعودي قائلا:
"ان مؤتمر جنيف يهدف الى التشاور لبحث تنفيذ قرار مجلس الامن 2216 ، وليس للمصالحة"
يبدو واضحا ان الرياض حكمت بالفشل على المؤتمر ونتائجه مسبقا. فالاطراف الموالية للنظام السعودي الوهابي اعترفوا سلفا بانهم مفاوضون مجردون من اية صلاحية او قدرة على اتخاذ القرارات المصيرية، في وقت يشهد فيه اليمن عدوانا همجيا احرق الاخضر واليابس في طول البلاد وعرضها منذ ما يقارب ثلاثة شهور.
بيد ان " المملكة" تدرك تماما في جانب اخر بأنها عاجزة عن حسم الحرب التي اشعلتها تحت ذريعة "حماية الشرعية" ، فالحملات الجوية على المواطنين اليمنيين العزل وقتل الالاف من النساء والاطفال والرجال الابرياء بدأت تشكل وصمة عار في جبين آل سعود . كما ان الرأي العام العالمي ومنظمات الدفاع عن حقوق الانسان الرسمية والاهلية صعدوا من احتجاجاتهم على هذا العدوان الغادر والسعوديين الذين يمتلكون سجلا اسود في القمع والدكتاتورية و التطرف الديني والتكفير. وقد اضافت جرائم الحرب التي اقترفوها بحق هذا البلد الوديع، مايزيد في عتمة هذا السجل اكثر من اي وقت مضى.
اليمن و مخططات قوى الهيمنة
يكابد اليمن جميع الوان المصاعب والحصار والحرمان منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا ، لأن للغرب الاوروبي – الامیرکي حساباته المصلحية، وفي ضوئها تم رسم خارطة المنطقة انطلاقا من اتفاقية سايكس/ بيكو عام 1916 (تفاهم سري بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من روسيا القيصرية على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب اسيا بعد انهيار الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الاولى) ومرورا باحتلال فلسطين رسميا في ايار 1948 وإنشاء " دولة اسرائيل " الغاصبة مكانها، ووصولا الى ما نشاهده في الوقت الراهن من انتشار مفتعل للموجة التكفيرية المتطرفة في الدول العربية خصوصا والعالم والاسلامي عموما، على خلفية مخطط " الفوضى الخلاقة" الذي اسفرت كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة عنه منذ العام 2004 ، اي بعد اجتياح العراق في اذار 2003 ، وتحول هذا البلد الى ساحة مفتوحة للارهاب المنظم من قبل تنظيم القاعدة وأفرعه ومسمياته الاخرى ومنها "داعش"، وذلك بعدما خسر هذا التنظيم حاضتنه الاساسية في افغانستان عام 2001 .
اللافت ان تنظيم القاعدة ، وعلى فرض ما يقال عن التباين الفكري والحركي بينه وبين عصابات داعش الدموية، قد نشط نشاطا واسع النطاق في اليمن قبل ظهور المتغيرات وبوتيرة متسارعة ومأساوية للغاية في سوريا وليبيا والعراق فضلا عن سيناء مصر، ما خلا فلسطين التي يحار المرء والى أبعد أشكال الحيرة، حين يرى ان غزوات داعش أو ما يسمى ب" دولة الخلافة الاسلامية سواء في عنوانها الاولي العراق والشام سابقا او في عنوانها العريض والاوسع حاليا " ، لاتلامسها قيد ذرة لامن قريب ولا من بعيد، حتى وكأنه لا وجود لكيان صهيوني غاصب فيها، يولغ في دماء ابناء ارض الاسراء والمعراج منذ نحو 85 عاما ، اي قبل اصطناع "الدولة العبرية" بكثير.
اذن واستنادا الى ما ذكرناه فإن اليمن كان هو الاخر وما يزال محكوما بإستحقاقات "وعد بلفور المشؤوم" ( 2 نوفمبر 1917 الذي اوصى باتقطاع ارض فلسطين من العالم الاسلامي لتكون وطنا قوميا لليهود). أما صلة الوصل هنا، وهو ما يجب ان يتأكد منه العالم أجمع، فهي ظهور ارهاصات نشوء الدولة السعودية الوهابية تزامنا مع إحداثيات اتفاقية سايكس.بيكو وايضا مع استحقاقات ذلك الوعد الظالم ، على الرغم من ان آل سعود لم يكونوا طرفا أو لاعبا أساسيا في الحرب العالمية الاولى( 1914- 1919 ) شأن شريف مكة الحسين بن علي وابنائه والكثير من الزعماء الذين انضووا تحت لوائه . لقد كان الشريف صاحب مكانة وهيبة ونفوذ وقد استغفله البریطانیون ایما استغفال من اجل إستنفار العرب وإعلان الحرب على الدولة العثمانية موعودا بأن يكون ملكا على العرب كافة بعد الانتصار.
بيد ان المسلمين والعرب آنذاك تفاجأوا بتنحية شريف مكة وبشكل مسيء للغاية، وبدفع الانجليز ب "عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود" الى واجهة الاحداث في شبه الجزيرة العربية وتنصيبه ملكا في ليلة وضحاها، وذلك عقب مناوشات مهزلية بينه وبين بعض القبائل، صنعت من هذا البدوي البسيط ماردا صُوّر للناس بأنه استطاع ب"قوته الخارقة للعادة" ان يسيطر على صحراء نجد ابتداء ومن ثم ان يستحوذ على ارض الحجاز الطاهرة ومنطقة الاحساء الغنية ، ليؤسس عليها ما سمي لاحقا بالمملكة العربية السعودية في المدة الزمنية ما بين الاعوام 1921- 1931.
فهذه الدولة التي هي باستمرار مثار جدل وعليها الكثير من علامات الاستفهام جراء تناقض سياساتها مع الدين الحنيف والعقيدة السمحاء ، ومع نفسها وجيرانها ، ومع القضايا المصيرية للامة الاسلامية .
ان اليمن بلد اسلامي حضاري ضارب بجذوره في اعماق التاريخ . وهو يتمتع بموقع استراتيجي في شبه الجزيرة العربية . و يمتلك مضيق باب المندب ذا الاهمية البالغة باعتباره أحد اهم الممرات المائية في العالم واكثرها احتضانا للسفن ، حيث يربط بين البحر الاحمر وخليج عدن، وتزيد اهميته بسبب ارتباطه بقناة السويس في مصر وممر مضيق هرمز في الخليج الفارسي.
ويعتبر اليمن جنة من جنان الله في الارض حيث تزدحم فيه الجبال الخضراء الشاهقة والهضاب الرائعة والسهول المنبسطة الخلابة، إضافة الى ما حباه المولى الكريم من النعم والآلاء والخيرات ما ظهر منها وما بطن ومنها الاحجار الكريمة . الامر الذي جعله يحظى بتسمية (اليمن السعيد) تمییزا له عن باقي البلدان الاسلامية . وقد تم اكتشاف النفط فيه منذ معرفة اهميته في مطلع القرن العشرين، لكن السياسات الغربية الدولية جمدت الثروة البترولية في اليمن لغاية في نفسها.
ولاغرابة في ذلك لان الفكر الرأسمالى الامبريالي مجبول على ترتيب الاولويات ، وهو ينظم على قواعدها سياساته الاقتصادية ومطامعه الاستغلالية . وتفيد التقارير الاختصاصية بأن نفط جوف اليمن هو اكثر من نفط السعودية.
وحسب احصائيات عام 2012 بلغ عدد سكان اليمن نحو 25 مليون نسمة يشكل الاطفال و الاحداث والشباب فيهم نسبة تقارب 80 بالمائة، ما يؤكد ان المجتمع اليمني مجتمع شاب وحيوي تماما، وبذلك فهو يتمتع بمنطلقات النهوض والتقدم والتطور التنموي، الى جانب امتلاكه القدرات الذهنية والفكرية والانضباطية الهائلة ، الامر الذي تجلى في ثورته ، ثورة الشباب اليمنية يوم 15 يناير 2011 الرافضة للاستبداد والدكتاتورية والمحرومية ، والتي اجبرت علي عبد الله صالح على الاستقالة من منصب رئيس الجمهورية بتاريخ 21 فبراير 2012 . لقد كانت بحق ثورة سلمية حضارية رائعة نالت اعجاب العالم واحترامه بلا شك.
والشعب اليمني ذو تدين قوي ، وهو متمسك بالقيم الاسلامية اضافة الى طيب اخلاقه مع تحليه بسجايا السماحة والكرم والاباء والشجاعة والزهد ورفض الضيم.
التضحية باليمن خدمة لنموذجي الانحراف إسرائيل والسعودية :
من الواضح جدا وجود تلازم وثيق بين تأسيس نظام آل سعود الوهابي التكفيري في ارض مهبط الوحي الالهي و إقامة الكيان الصهيوني الاستئصالي في فلسطين المحتلة . فالأول يمثل نموذج صارخ للانحراف الديني والفكري بأسم الاسلام ، والثاني يمثل نموذجا صارخا للانحراف الديني والفكري باسم اليهودية، ويتكامل كلاهما جنبا الى جنب منذ بدايات القرن العشرين حتى الان لخدمة اجندات زعماء القوة والمال في العالم الغربي من جهة، وتأجيج الانقسامات والصراعات والازمات في الشرق الاوسط من جهة اخرى، باسم الدين وهو منهما براء. وعلى هذا الاساس يمكن القول أن الاثنين هما وجهان لعملة واحدة ، مسخرة لضرب الوحدة الاسلامية وتشتيت قدراتها.
ولهذا السبب تحديدا يخضع اليمن لتحطيم شديد انساني واقتصادي وحضاري منذ بدايات القرن العشرين ودخولا للقرن الحالي ، فهو كما اسلفت ، ضحية لسياسات اللعبة الدولية التي مزقته شر ممزق عبر التقسيم الى بلد شمالي وبلد جنوبي ، وعبر معاناته المريرة من الفقر والبطالة وضيق ذات اليد وتبطيء عجلة التنمية في البلاد، مع انه يتربع على مساحة عظيمة من الثروات الطبيعية ، بالاضافة الى عزله عمدا عن تكتل دول مجلس التعاون في الخليج الفارسي بزعامة النظام السعودي، رغم تقاطع المصالح بشكل كبير بين اليمن ودول هذا المجلس الذي يمكن وصفه في اقل تقدير بأنه مجلس أمراء البترول الطائفيين .
لماذا كل هذا الحقد السعودي على اليمن
على الرغم من قواعده الفكرية الخاوية والمنحرفة اساسا ، يعاني نظام آل سعود من عقدة الدناءة والانحطاط في تعامله الجائر مع اليمن وشعبه الحضاري العريق. لقد قامت سياسات المملكة الوهابية التكفيرية دوما على شراء الذمم باستقطاب زعماء القبائل والاشخاص النخبويين في المجتمع وتقديم الرشى الشهرية والسنوية لهم كل حسب وزنه وتأثيره . ويحصد حزب الاصلاح المتأسلم وزعماؤه آل الاحمر رؤساء قبيلة حاشد الحصة الكبرى من هذه الرشاوى الامر الذي جعلهم ادوات طيعة بأيدي حكام الرياض باستمرار.
ولاشك في ان وجود مثل هذه الارضية الارتزاقية هو الذي سوغ للنظام السعودي استباحة اليمن في اطار غاراته الجوية الوحشية على اليمن وشعبه وبناه التحتية منذ مجازر "عاصفة الحزم" واستمرارا بمجازر "إعادة الامل" وكلاهما يعبران عن حقد سعودي وهابي دفين طاول ومايزال يطاول الحياة الانسانية البريئة ومراكز التنمية والعمران والصحة والعلوم والحضارة والتاريخ العريق.
وبما ان المدافعين من رجال انصار الله ومعهم الجيش اليمني بقضه وقضيضه ، لم يبدأوا بعد قتالهم الحقيقي مع المعتدي السعودي، بسبب انشغالهم فعلا بمطاردة فلول تنظيم القاعدة وبعض القطعات العسكرية الموالية للرئيس المخلوع هادي منصور الفار الى الرياض،فإن المعطيات الراهنة الدالة على الاحباط والانهيار في الجانب المعتدي على اليمن وشعبه ومراكزه الحيوية والتنموية والصحية، تفصح عن حاجة حكام السعودية الملحة لاستغلال حلول شهر رمضان المبارك للتظاهر باحترام الشهر الفضيل وافساح المجال لدفن شهداء عدوانه الغاشم من المواطنين اليمنيين الابرياء في مقابر جماعية ، وتوجه الشعب اليمني الى تأمين متطلبات الصيام الى جانب مستلزمات عقد المآتم وبيوت الحداد على ارواح اعزاهم الذين راحوا ضحية التعصب المذهبي الاعمى لزعماء البداوة والوهابية اللاعقلانيين في الرياض .
اذن فإن التراجع العسكري السعودي قد يكون تحصيل حاصل بل مطلبا جوهريا في مؤتمر جنيف ، تريد الرياض من ورائه الخروج بقليل جدا من ماء الوجه جراء تورطها المخزي في المطب اليمني المعقد حتى وإن سيق المؤتمر بكل بريقه وثقله الدولي والاعلامي الى هذا الاتجاه الاستعراضي فحسب.
*حميد حلمي زادة
https://telegram.me/buratha