نهارت محاكمة الرجل السويدي بيرلين جيلدو في لندن، والذي كان متهماً بالإرهاب في سورية، بعد أن أصبح من الواضح أن الاستخبارات البريطانية كانت تسلح نفس مجموعات الثوار التي كان الرجل متهماً بدعمها.من الواضح أن الادعاء تخلى عن القضية ليتجنب التسبب بالمزيد من الإحراج للأجهزة الاستخبارية. واعتمدت مرافعة الدفاع على أن المضي قدماً بالمحاكمة سيكون “إهانة للعدالة” حيث أن هناك الكثيرمن الأدلة على أن الدولة البريطانية نفسها كانت تقدم “الدعم الواسع”لداعش والنصرة وغيرها من الحركات الارهابية.ولم يتضمن ذلك “مساعدات غير قاتلة” فقط، كما تتبجح الحكومة (متضمناً الدروع والمركبات العسكرية)، بل بالإضافة إلى ذلك هناك التدريب، والدعم اللوجستي و”كميات هائلة من السلاح”. وتم الاستشهاد بتقارير على أن جهاز المخابرات البريطانية الخارجية MI6 تعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية لخلق خط (غير معلن) لنقل الأسلحة من المخزون الليبي إلى الثوار السوريين في عام 2012 بعد سقوط نظام القذافي.من الواضح أن سخافة إرسال شخص إلى السجن لقيامه بما يقوم به وزراء الحكومة وقياداتهم الأمنية أنفسهم أصبحت أكثر مما يمكن تحمله. لكن تلك كانت الأخيرة بين سلسلة من القضايا المشابهة. كان سائق التكسي اللندني أنيس ساردار أقل حظاً، حيث تلقى حكماً بالسجن مدى الحياة قبل أسبوعين لأنه شارك في مقاومة الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق. من الواضح أن المعارضة المسلحة والغزو غير القانوني والاحتلال لا يعنيان الإرهاب والجريمة في معظم التعريفات، بما فيها تلك المضمنة في اتفاقية جنيف.لكن الإرهاب الآن يقبع بشكل مباشر في عين من ينظر إليه. وليس هناك مثال على ذلك أبرز من الشرق الأوسط، حيث أن إرهابيي اليوم هم المقاتلون ضد الطغيان غداً، والحلفاء هم الأعداء، وغالباً يحدث ذلك ضمن نزوة محيرة أثناء مكالمة بين صانعي السياسة الغربيين.طيلة السنة الماضية، عادت القوات الأمريكية والبريطانية وقوات غربية أخرى إلى العراق، من أجل ما يفترض أنه تدمير المجموعة الإرهابية الطائفية “داعش” (المعروفة سابقاً باسم “القاعدة في العراق”). كان ذلك بعد أن اجتاح تنظيم داعش مساحات كبيرة من الأراضي العراقية والسورية وأعلن عن تشكيل ما يسمى الخلافة الإسلامية.لا تسير الحملة بشكل جيد. في الشهر الماضي، سيطر داعش الاجرامي على مدينة الرمادية العراقية، بينما في الطرف الآخر من الحدود غير الموجودة حالياً انتزعت قواتها مدينة تدمر السورية. جناح القاعدة الرسمي، جبهة النصرة حقق مكاسب أيضاً في سورية.
يتذمر بعض العراقيين من أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحرك ساكناً بينما كان ذلك يحصل. ويصر الأمريكيون على أنهم يحاولون تجنب الضحايا المدنيين، ويدعون تحقيق نجاحات هامة. في السر، يقول المسؤولون أنهم لا يريدون أن يظهروا بمظهر من يضرب القلاع السنية في حرب مذهبية، ويخاطروا بإزعاج حلفائهم السنيين في الخليج.تم تسليط الضوء على كيفية وصولنا إلى هنا بواسطة تقرير استخباري أمريكي مكتوب في آب 2012 تم رفع السرية عنه مؤخراً، والذي بدوره يتنبأ بشكل خارق ويرحب بشكل فاعل باحتمال إمارة سلفية في شرق سورية ودولة إسلامية تتحكم بها القاعدة في سورية والعراق. بتناقض كامل مع الادعاءات الغربية في ذلك الوقت، فإن وثيقة وكالة الاستخبارات الدفاعية يسمي القاعدة في العراق (والتي أصبحت داعش) وزملائها السلفيين كـ”القوى الأساسية التي تقود التمرد في سورية” – ويصرح بأن “الدول الغربية، دول الخليج وتركيا” كانوا يدعمون جهود المعارضة في السيطرة على سورية.وبينما يقدم التقرير “احتمال نشوء إمارة سلفية معلنة أو غير معلنة”، يتابع “هذا بالضبط ما تريده القوى الداعمة للمعارضة، من أجل عزل النظام السوري، والذي يعد العمق الاستراتيجي للتمدد الشيعي (العراق وإيران)”.وهو بالضبط ما حدث بعد سنتين. ليس التقرير وثيقة سياسية. لقد تم تحريره بصعوبة، ويشوبه الكثير من الغموض اللغوي. لكن المضمون واضح بما فيه الكفاية. بعد مرور سنة على التمرد السوري، لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها يدعمون ويسلحون معارضةً يعلمون أنها مسيطر عليها من قبل مجموعات طائفية متطرفة، بل كانوا مستعدين لتشجيع خلق نوع من “الدولة الإسلامية” – بالرغم من “الخطر الشديد” على وحدة العراق – كحاجز سني لإضعاف سورية.يعني ذلك طبعاً أن الولايات المتحدة خلقت داعش، بالرغم من أن بعض حلفائها الخليجيين لعبوا دوراً في ذلك بالتأكيد كما صرح نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن السنة الماضية. لكن لم يكن هناك وجود للقاعدة في العراق حتى الغزو الأمريكي والبريطاني. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة استغلت وجود داعش ضد باقي القوى في المنطقة كجزء من حملة أوسع للمحافظة على التحكم الغربي في المنطقة.تغيرت الحسابات عندما بدأت داعش بقطع رؤوس الغربيين ونشر فظاعاتهم على الانترنت، وتقوم دول الخليج الآن بدعم مجموعات أخرى في الحرب السورية، مثل جبهة النصرة. لكن هذه العادة الأمريكية والغربية في اللعب مع المجموعات الجهادية التي تعود لتلسعهم. تعود تاريخياً على الأقل إلى حرب الثمانينيات ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان والذي أنشأ تنظيم القاعدة الأصلي تحت وصاية المخابرات المركزية الأمريكية.تمت إعادة تقييم الوضع أثناء احتلال العراق، عندما رعت القوات الأمريكية بقيادة الجنرال بترايوس حرباً قذرة لفرق موت طائفية على طريقة السلفادور لإضعاف المقاومة العراقية. تم تكرار المشهد في ليبيا عام 2011 أثناء الحرب المنسقة من قبل الناتو، حيث سيطر تنظيم داعش الأسبوع الماضي على موطن القذافي الأصلي – مدينة سرت.في الواقع، فإن سياسة الولايات المتحدة والغرب في الحريق الذي يشتعل الآن في الشرق الأوسط هي في صلب قالب القاعدة الامبريالية (فرق تسد). تقصف القوات الأمريكية مجموعة من المتمردين بينما تدعم مجموعة أخرى في سورية، وتركب على موجة العمليات العسكرية المشتركة مع إيران ضد داعش في العراق بينما تدعم الحملة العسكرية السعودية ضد الحوثيين المدعومين من قبل إيران في اليمن. ومع ذلك، مهما بدت السياسة الأمريكية مشوشة، فإن تقسيم سورية والعراق يناسب مقاربتهم بشكل كامل.ما هو واضح أن داعش ووحشيته لن يهزم من قبل القوى التي أحضرته إلى العراق وسورية في البداية، أو تلك القوى التي رعته لسنوات من خلال الصناعة المعلنة وغير المعلنة للحرب في تلك المنطقة.ولم تجلب التدخلات العسكرية الغربية إلى الشرق الأوسط سوى الدمار والتقسيم. وحدهم شعوب تلك المنطقة من يمكنهم معالجة ذلك المرض، وليس أولئك الذين طوروا الفيروس.
المراقب العراقي
https://telegram.me/buratha