بغداد ـ عادل الجبوري
أخذ الحديث عن سحب الثقة برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ينتقل من الكواليس والاروقة السياسية الخاصة الى عموم الرأي العام والشارع العراقي، متزامنا مع الخطوات والاجراءات الاصلاحية التي اتخذها او اعلن عنها العبادي خلال الشهرين الماضيين، استجابة لدعوات المرجعية الدينية في النجف الاشرف، ونزولا عند مطالب طيف واسع من الجمهور العراقي بمختلف الوانه واتجاهاته وانتماءاته.
ومن غير الواضح حتى الان الأطراف المحركة لملف سحب الثقة في مثل هذا الظرف الحساس والخطير أمنيا وسياسيا واقتصاديا، لكن قد لا يكون خافيا او بعيدا عن دائرة الاستنتاج والتحليل الصحيح، ان اجندات سحب الثقة وان استند جانب منها الى مبررات مقنعة ومقبولة بمقدار معين، الا انها لا تخرج عن نطاق الدفع بالامور الى المزيد من التعقيد والتأزيم، وتتداخل في تلك الاجندات العوامل الداخلية والعوامل الخارجية، وكذلك تتداخل مصالح وحسابات شخصيات معينة مع مصالح وحسابات قوى وكيانات سياسية وحزبية.
ولعل نظرة معمقة وتأملا طويلا في مجمل تفاعلات المشهد العام توصلنا الى نتيجة مفادها، ان الأطراف التي عارضت الإصلاحات منذ البداية، او اكتشفت فيما بعد انها تتقاطع مع مصالحها الخاصة، هي ذاتها التي راحت تتحرك اليوم بأساليب مختلفة وأدوات شتى لتفعيل وتحريك ملف سحب الثقة من العبادي، واضعة في حساباتها انها اذا لم تتمكن من إزاحته، فإنها يمكن ان تنجح في اضعافه ومحاصرته، وإن لم تفلح بذلك ففي أسوأ التقادير تقوم باشغاله وإرباكه، وبالتالي افراغ مشروع الإصلاحات من محتواه، واضافة ازمة اخرى لقائمة الازمات الطويلة التي تثقل كاهل العراقيين، لتتلاشى أي امال وتمنيات بحصول تقدم الى الامام، ولو كان طفيفا.
ماذا عن اجندات المطالبين بإقصاء العبادي؟
واول من يعارض الاصلاحات، بل ويقف في وجهها بكل ما اوتي من قوة، هي مافيات الفساد المالي التي تغلغلت خلال الاعوام الاثني عشر الماضية، في كل مفاصل الدولة، لا سيما الحساسة والمهمة منها، والتي تتمتع بأمكانيات وموارد مالية كبيرة جدا، وبعض تلك المافيات مرتبط بقوى وشخصيات سياسية نافذة ومؤثرة، وطبيعي ان تقليص النفقات والتقشف سينعكس عليها سلبا، والأدهى من ذلك فإن فتح ملفات الفساد سيؤدي الى فضحها وتعريتها، وهذا ما تحاول منع حصوله بأي ثمن.
الفريق الاخر الذي يعارض الاصلاحات، يتمثل بالاطراف التي خسرت مواقع حكومية تتيح لها الاحتفاظ ببعض نفوذها وتأثيرها وامتيازاتها، وكذلك الاطراف التي فقدت جزءا من امتيازاتها، سواء في السلطة التنفيذية او التشريعية او القضائية، الى جانب المؤسسات العسكرية والامنية.
الفريق الثالث المعارض للاصلاحات، يمثله اتجاه سياسي معين، يريد ان يفصّل الاصلاحات وفق ما يتناسب مع مصالحه وتوجهاته، من خلال طرح جملة شروط ومطالب، من بينها اصدار عفو عام عن السجناء، والسماح بعودة النازحين الى مناطقهم ومدنهم، والموافقة على تسليح وتمويل ابناء المناطق المحتلة من قبل تنظيم داعش ليتولوا بأنفسهم تحرير مناطقهم.
والى جانب كل هؤلاء، هناك من يرى "ان العبادي ضعيف ومرتبك ومتردد في خطواته واجراءاته، وانه غير قادر على ان يفعل شيئا حقيقا، ناهيك عن ان كل ما قام به حتى الان لايعكس وجود رؤية اصلاحية عميقة وناضجة، لذا فأن الامور ستبقى تدور في حلقة مفرغة، ان لم تزدد سوءا في ظل الازمات المالية، والتحديات الامنية، والتجاذبات السياسية، ان لم يصار الى البحث عن بديل قوي وحازم للعبادي".
حتى وان كانت تلك الرؤية صحيحة، وهي في جانب منها كذلك، الا ان العلاج والحل يبدو غير واقعي أبدًا في خضم ما يمر به العراق من ظروف حرجة وتحديات خطيرة.
في اخر خطبة للمرجعية الدينية من الصحن الحسيني الشريف في مدينة كربلاء المقدسة، اشار معتمد المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي، الى ان الاجراءات الاصلاحية التي انجزت خلال الفترة الماضية لم تكن جوهرية، بيد انه شدد على ضرورة الاستمرار بها، وتكاتف الجميع لانجاحها، وعدم التعكز بالدستور لافشالها وتعويقها، وفسر البعض موقف المرجعية بأنه دعم للعبادي وتشديد على ضرورة المضي بالاصلاحات، وتوسيع نطاقها، على الرغم من ان بعض الاوساط والمحافل المحركة لملف "سحب الثقة" من العبادي، حاولت تصوير عدم لقاء الاخير في زيارته للنجف الاشرف باية الله العظمى السيد علي السيستاني بأنه رسالة ضمنية فحواها "ان المرجعية رفعت يدها عن العبادي"، وهذا امر قد يكون بعيدا عن الواقع، لاسيما وان الفترة الزمنية منذ انطلاق الاصلاحات لم تتجاوز الاربعة شهور.
والى جانب الاطراف الداخلية المعارضة للاصلاحات، والساعية في الوقت ذاته الى تحريك "سحب الثقة" عن العبادي، فأن اطرافا خارجية، يمكن أن تكون الولايات المتحدة الاميركية من بينها، تتبنى تحركا مماثلا، لا يهدف بالضرورة الى اقصاء العبادي وابعاده عن الرئاسة، بل يراد منه مساومته وارغامه على تقديم جملة تنازلات، منها، تحجيم الحشد الشعبي وعدم اعطائه دورا محوريا في القتال ضد تنظيم داعش، وكذلك غض الطرف عن أي تواجد بري للقوات الاميركية في العراق، وعدم الاستعانة بالروس في محاربة الارهاب كما فعلت سوريا، وتلبية بعض مطالب المكون السني.
وقد لا يخرج التحرك الاميركي لعقد مؤتمر في مدينة اربيل لاطراف سياسية مختلفة، بعضها معارض للعملية السياسية، وبعضها الاخر مطلوب للقضاء، عن سياق الضغط على الحكومة ورئيسها، من اجل ابداء مرونة في القضايا المشار اليها انفا، ومن غير المستبعد ان تستغل واشنطن اثارات "سحب الثقة" لتوجيه المزيد من الضغط على العبادي، وهو ما يمكن ان يلاقي ردود فعل قوية من قبل بعض المشاركين في العملية السياسية، وخصوصا بعض حلفاء العبادي في التحالف الوطني العراقي الذي يمثل الاغلبية في مجلس النواب.
وما ينبغي التأكيد عليه هنا، ان الاجراءات والخطوات الاصلاحية، مع كل ما يطرح ويثار حولها من ملاحظات وتحفظات ومؤاخذات، لا بد ان تستمر وتتواصل، وتصحح مساراتها الخاطئة والمتسرعة، وكذلك فإن أي توجه لسحب الثقة من رئيس الوزراء في المرحلة الراهنة تحديدا يعني المزيد من خلط الاوراق، وفتح الباب على مصراعيه لخيارات غامضة، يصعب التوافق على أي منها خلال وقت قصير، فضلا عن ذلك فإن الازمات والمشاكل الامنية والاقتصادية والسياسية القائمة حاليا لن تجد طريقها الى الحل، ان لم تزدد تشابكا وتداخلا وتعقيدا في ظل بيئة محلية واقليمية مفتوحة على كل - بل واسوأ - الخيارات.
https://telegram.me/buratha