يعيش العالم اليوم صراعاتٍ أكبر من الأطراف التي تُديرها. فبنظرةٍ سريعةٍ للواقع السياسي الذي يتصف به الإقليم والعالم، نجد أن العديد من المشكلات أصبحت واقعاً يحتاج لسنواتٍ لإزالتها. ومن بين هذه الدول التي تعتبر مركزيةً في المنطقة من ناحية جغرافيتها السياسية، دولة العراق التي أفقدها الأمريكي كل مرتكزات القوة الداخلية لا سيما عسكرياً، من خلال إحتلاله لها وجعلها منطلق تنظيم داعش الإرهابي. ليدخل العراق في مخاضٍ عسيرٍ أدى في إحدى نتائجه لولادة الحشد الشعبي الذي يُعتبر اليوم ركناً من أركان قوة العراق شعباً ودولةً. ولأن واشنطن خرجت منه ذليلةً، ليبدأ مع ذلك تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، خرجت اليوم لتطرح مشاريع تقسيمية تبدأ من العراق، تهدف لضرب وحدته جغرافياً وعلى أسسٍ مذهبية، مُبررةً ذلك بأنه لا يوجد حلٌ لصراعات الشرق الأوسط ومنها العراق، إلا بالتنازل عن ما يسمى قدسية الحدود القائمة. فماذا في مشروع واشنطن الجدي للمنطقة والذي بدأ من العراق عبر سن قانونٍ من خلال الكونغرس؟
القرار الأمريكي والسخط العراقي:
أحدث السعي الأمريكي لسنِّ قانون يتيح التعامل مع بعض المكونات العراقية بشكل مستقل، ضجّة داخل الأوساط السياسية العراقية، تخطتها لتكون ضجةً أكبر من العراق. وهو الأمر الذي يمكن أن يكون له إرتداداتٌ إقليمية ودولية. وهنا نشير بدايةً لعينةٍ من العراق تشكل رأي أغلب الداخل العراقي، المعارض للتقسيم.
فقد طالب هيثم الجبوري رئيس كتلة كفاءات البرلمانية بعقد جلسة استثنائية لمجلس النواب العراقي للتداول بشأن جلسة الكونغرس . وأشار في بيانه الى أنه من غير الواقعي أن يبقى العراق متفرجاً دون أخذ موقف حازم أمام هذه التدخلات التي تخل بالسيادة العراقية وتعتبر تدخلاً مباشرا بالشأن الداخلي للدولة العراقية. لافتاً الى ضرورة بداية التحرك الدبلوماسي لإيقاف مناقشة هذا القرار. من جانبٍ آخر طالب النائب السابق فوزي أكرم ترزي بطرد السفير الأمريكي من العراق، مستنكراً حجم التدخل الأمريكي الذي يتعامل مع أبناء السنة وإقليم كردستان العراق كبلدين. مشيراً الى أن هذا تدخل سافر في الشأن الداخلي العراقي وتطبيق لمشروع نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن بتقسيم العراق.
الدلالات والتحليل:
ليس جديداً توجه واشنطن لمثل هذه الطروحات، وهي التي بنت كل سياساتها في المنطقة، من خلال تأجيج الخلافات وتقسيم الدول. لكن خطورة هذا التوجه تكمن في أمور عديدة يجب الإلتفات لها، وهنا نشير للتالي:
- منذ فترةٍ مرّرت لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي، مشروع قانون طرحه عضوها ماك ثورنبيري يفرض شروطاً لتخصيص مساعدات عسكرية أمريكية للعراق بقيمة ٧١٥ مليون دولار من ميزانية الدفاع لعام ٢٠١٦. وقد تضمنت هذه الشروط أن يتم التعامل مع أطراف معينة في العراق، مثل البيشمركة والفصائل السنية المسلحة في العراق، على إعتبارهم منفصلين عن العراق. وهنا ومن هذا المنطلق نعود للواقع الحالي لنربط بين الماضي والحاضر فنقول، إن الإجراء الأمريكي الحالي يتصل بالسابقة التي ذكرناها، والتي تهدف لشرعنة دعم أطراف معينة. وهنا قد يسأل البعض لماذا؟
- لقد شكل خروج واشنطن من المنطقة عسكرياً، آخر مظاهر تراجع نفوذها والذي بدأ منذ فترةٍ تعود لما قبل الخروج العسكري. فتراجع قدرة دولةٍ بحجم أمريكا في فرض شروطها السياسية أو الأمنية أو العسكرية، هو مظهرٌ من مظاهر تراجع النفوذ. وبالتالي فإن هذا التراجع ترجمته حالة الضعف في تسيير الأطراف ضمن السياسة الأمريكية والتي بقيت سيدة العالم لسنوات. ليظهر الى العلن ضعف واشنطن من جهة، ونجاح أعدائها في العالم لا سيما إيران من جهةٍ أخرى. لذلك تسعى اليوم لتحديد الأطراف التي يمكنهم التعامل معها في المنطقة، وبالتالي الدفع نحو مشروعٍ يُعطيهم الحق في تقرير مصيرهم بعيداً عن الواقع المعقد لمركزيات الدول السياسية. وهنا جاءت فكرة الإنفصال أو التقسيم، كهدفٍ لبناء جغرافيا سياسية جديدة في المنطقة تتكون من أطراف موالين لواشنطن بعد أن فقدت أمريكا أرضيتها.
- وبالنسبة للعراق كنموذجٍ لبناء ذلك، فإن واشنطن تسعى لجعل العراق ثلاث مكونات، قد يقبل بها بعض الداخل العراقي الذي لا يشكل أغلبية، والذي ما يزال يجد في اللجوء لواشنطن مكسباً له. في حين تتفق كافة الأطراف العراقية شيعةً وسنةً تحديداً، على أن مشروع التقسيم سيُفقد العراقيين قدراتهم، وبالتالي فيجب منعه. كما أن النجاحات الباهرة للعراقيين لا سيما من خلال نموذج الحشد الشعبي، دفعت بالأمريكي الى الإستعجال في فرض سياسته، بفعل النتائج التي يقدمها هذا النموذج الذي أصبح ورقة قوة للعراق.
إذن بين السعي الأمريكي وردة الفعل العراقية، نصائح للعديد من الأطراف الدولية بمنع الخطوة الأمريكية الخطيرة. فلا يجب أن تدخل الجغرافيا السياسية للدول في بازار التسويات. فيما يبدو أن ذلك يمثل جوهر السياسة الأمريكية الجديدة تجاه المنطقة اليوم.
نقلاً عن موقع الوقت
https://telegram.me/buratha